كتب : منصف الوهايبي رأيتُها في صكوكِ الإرثِ مكتوبه/سِفْراً من الإنسان والإزميل/والحجرِ/رأيتُها من شقوق الصيفِ/مسكوبه/غاباتِ أيدٍ ترعرعُ في دم الشجرِ/وأَوْجُهاً من حميم الطمي مجلوبه/منسوجةبالفروع الخُضْر/ والثمرِ/وأعظُماً غالبتْ أكفانَها، انقلبتْ/فراشةً حمراءَ مخضوبهْ في مثل هذه الأيّام من صيف 2010 رحل شاعر مصريّ فلاّح، شاعر استثنائيّ «منسيّ» أكاد لا أجد من أقرنه به، سواء من شعراء مصر، أو شعراء البلاد العربيّة في القرن العشرين. ولعلّه أقرب ما يكون إلى بدر شاكر السيّاب معجما وحلولا في الأرض، وإن لم يكن على نسب منه ووشيجة، من حيث تركيب القصيدة و بناء الصورة الكليّة في «احتفاليات المومياء المتوحشة» و»فاصلة إيقاعات النمل» و»النهر يلبس الأقنعة» و»ملامح من الوجه الأمبيذوقليسي»و»أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت»... وقصيدة عفيفي لا تزال تحتفظ بالكثير من وجوه إغماضها، قصيدة تقاوم، كما هو الشأن عند أدونيس خاصّة؛ كلّ أنماط القراءة التجزيئيّة. والإغماض مثلما نبّه عليه حازم القرطاجنّي يمكن أن يرجع إلى المعنى نفسه عندما يُبنى على مقدّمة في الكلام يصرف الشاعر الفهم عن التفاتها، بعد حيّزها من حيّز ما بني عليها، أو تشاغله بمستأنف الكلام، عن فارطه أو غير ذلك ممّا شأنه أن يجعل الأفهام «كليلة قاصرة عن تحقّق مفهومات الكلام». أو عندما تفرط العبارة في الطّول فيتراخى بعض أجزائها، عمّا يستند إليه، وما هو منه بسبب؛ بعبارة حازم؛ فلا يشعر باستناده إليه واقتضائها له. وكثيرا ما يكون ذلك، «إذا وقع في الكلام اعتراضات وفصول؛ وكان مشتملا على أشياء يمكن أن ترجع إلى كلّ واحد منها ذلك الشيء». لكأنّ القرطاجنّي كان ينظر بعين الغيب إلى قصيدة عفيفي وهي تفرط في الطول، ويلوي بعضها على بعض؛ وكأنّ عفيفي يريد من الشعر وللشعر، أن يكون أشدّ تراخيا في الاستقبال، وأشدّ في القدم. على أنّ» الفهم» من منظور جماليّ خالص، ليس ضروريّا في الشعريّة الحديثة التي تقدّم عليه الانفعال والتأثّر؛ أو ربّما نحن نفهم لأنّنا انفعلنا وتأثّرنا. قصائد عفيفي الطويلة المركّبة شأنها شأن «التّوريق»، أساسها كتابة «لا نموذجيّة» أو»لا قياسية» قد لا تعدو دلالتها المتعة الفكريّة الخالصة : متعة تجميع الحروف والعناصر النّباتيّة والأشكال الهندسيّة في»التّوريق» حيث لا رابط في الظّاهر من شكل أو من معنى؛ يسوّغ إلحاق حرف بعنصر نباتيّ أو بشكل هندسيّ إلا أن يكون ذلك نابعا من أساس الكتابة المادّيّ. وهو أساس الرّسم والنّقش والتّصوير، ومتعة التّلعّب بالمستعار منه والمستعارله في الصّورةالكلّيّة حيث تتّصل الوحدات الصّغرى (الصور الجزئيّة) بوحدات مماثلة لها تجاورها أو تعلوها أو تدانيها، أو بصور متقابلة أو متعاكسة؛ وتنتظم كلّها في هيئة واحدة محكومة بنظام هندسيّ «صارم»، وعقليّة رياضيّة دقيقة. والشعر كما كتب عزرا باوند، هو أقرب الفنون إلى الرياضيات، من حيث معادلاته اللغويّة والوجدانيّة الانفعاليّة. فلعلّ الموضوع الرّئِيسَ في قصيدة عفيفي كما هو الأمر في»التّوريق» هو مجلى «روح الكتابة» ذاتها أو»جوهرها»؛ وكأنّ مسعى الفنّان يكمن في تحري العناصرمن سلطان المادّة «الفانية» بتحويرها وفق نظام هندسيّ رياضيّ خاصّ مظهرا وتكوينا. وفي الشّعر الذي نحن به يمكن أن نلحظ هذا المسعى في ظاهرتين لافتتين: قابليّة العناصر للانشطار والتّفرّع، وتجمّع عناصرها وأجزائها بشكل دائريّ حول نواة واحدة. ولعلّ هذا المظهر في إنشائيّة الصّورة أن يكون على وشيجة بعنصرين زخرفيّين أثيرين في فنّ التّوريق هما : المروحة النخليّة والزّهرة. والتوريق العربيّ هو ما يسمّيه الأروبيّون «أرابيسك». ومن العرب المعاصرين من يسمّيه «الرّقش العربيّ» و»التّوشيح العربيّ» و»التّوريق». ومن اللاّفت أنّ الأسبان والبرتغاليّين يطلقون على هذه الزّخرفة كلمة: Ataurique وهي مشتقّة من الكلمة العربيّة «التّوريق». ونحن نؤثر هذه التّسمية ؛لأنّها تعبّر عن طبيعة العناصر التي تكوّن هذه الزّخرفة العريقة.. ولعلّ عفيفي كان ينوّع عليها ويبني.. وعلى أنقاضها تُبنَى القصائد مثلما تُبنَى المدائن.. لعلّه..