لم أكن أعلم أن حكاية عمر ستؤثر فيَّ .. كل هذا التأثير .. كان طفلاً نابها .. لكنه الآن في حالة جسمانية ونفسية سيئة .. بعد أن أصابته الحمي الشديدة بالشلل .. قالوا لي : إن أباه يتأذي من حمله من مكان إلي آخر .. أبوه .. نعم .. هذا الشاب العفي يتململ من أن يحمل ابنه من الشقة إلي الشارع إلي …… علي الفور تبادر إلي ذهني مشوار طويل سيقضيه هذا الصبي الصغير … مقعدا عاجزا عن المشي … وماذا لو تخلي عنه أبوه ؟؟ … من ذا الذي سيعينه علي مشاق هذه الحياة … ؟؟ … كيف سيكمل تعليمه وقد كان متفوقا … مَن غير أبيه يتولاه …. بعد الله ؟؟ أبوه … نعم ... علي الفور استدعي هذا المشهد الحزين صورة ذهنية براقة ل ( أبي ) …. ( أبي ) – أطال الله فى عمره – هذا الرجل الشجاع … الذي تجاوز الثمانين من العمر … ربما قضي من تلك الثمانين ما يناهز الأربعين سنة .. يحمل جسدي وألمي وأملي علي كتفه الأيمن الذي كان يريحني كثيراً … لم يكن يحمل علي كتفه جسدا مشلولا مجهدا من نظرات البعض … وهمسات البعض الآخر .. و( مصمصات النسوة ) قي الطرقات … لكنه كان يحمل حلما بعيد المنال …وحملاً ثقيلاً … ورسالة معاناة … وكتاباً من حياة …لابد أن تمضي حتي السطر الأخير … كان ( أبي ) يحملني علي كتفه الصلب القوي الحنون الرائع من منزلنا بالقرب من البحر في سلامون حتي مدرسة مصطفي كامل الابتدائية البعيدة عن منزلنا لأنه لم يكن يملك ثمن الكرسي المتحرك فجعل من كتفه وسادة حانية أتوكأ عليه كي أستكشف العالم … وأبدأ أولي خطواتي في التعليم …. في الطريق إلي المدرسة …كانت تقابلنا – يومياً – سيدة عجوز … كانت في كل يوم تنظر إلينا باشمئزاز ثم تسأل أبي سؤالاً واحدا : ( انت ليه شايله كدا علي طول ؟؟؟ سيبه يمشي ) … فيصمت أبي ويمضي – وهو يحملني بهمة – من أمامها … وذات مرة – وبعد أن سألت سؤالها المكرر الممل الجارح أحياناً … صرخ ( أبي ) فيها بحزن قائلاً : ( ابني اللي قدامك … هيكون دكتور ) بعد حصولي علي الإعدادية بمجموع كبير رفض أبي أن ألتحق بأي تعليم متوسط علي الرغم من أن سلامون لم يكن فيها مدرسة ( ثانوي عام ) في تلك الآونة .. إضافة إلي أني قطعت شوطا رائعا في مجال الأدب والمسابقات الأدبية فقد كان ( أبي ) يحملني إلي قصر الثقافة عبر القطار كل يوم جمعة فمثلت مدرستي ( سلامون الإعدادية ) لأحصل علي المركز الأول علي مستوي مدارس المحافظة في كتابة القصة القصيرة لمدة ثلاث سنوات متتالية ويتم تكريمي من أكثر من محافظ أذكر منهم اللواء سعد الشربيني واللواء حسين مدين وأمثل الدقهلية في مسابقة من وحي النيل فأحصل علي المركز الأول علي مستوي الجمهورية في كتابة المقال الأدبي وأُكرَّم من الأديبة د.سهير القلماوي ود.فاروق حسني وزير الثقافة ومحافظ القاهرة ثم أمثل مصر علي مستوي الوطن العربي فأحصل علي المركز الأول في كتابة المقال الأدبي وأمثلها علي مستوي العالم فأحصل علي المركز الرابع في مسابقة ( شنكر الدولية ) التي تنظمها الهند …. كل هذا وسني لم يتجاوز ست عشرة سنة … كل هذا وكتف أبي يصعد بي إلي أعلي … كانت أولي العقبات الكبري التي واجهت أبي في تعليمي تتمثل في بعد المسافة بين منزلنا في سلامون ومدرسة شها الثانوية ( أحب المدارس إلي قلبي ) فالمسافة بينهما ليست بالقصيرة … فباع أبي إحدي ماكينتي التريكو اللتين كانتا مصدر رزقه الوحيد ليشتري لي دراجة بخارية مجهزة مستعملة ( موتوسيكل ) أذهب به إلي المدرسة أي أنه باع نصف ما يملك من أجل تعليمي … كان يرفض أن أقود الموتوسيكل وحدي بل كان يرافقني إلي المدرسة رافضا أن يحملني أي أحد من زملائي فلا يتركني إلا في الفصل ثم يذهب ويعود في موعد الخروج …لم يتأخر عني يوما … كان حاضرا دائما … وكان حضوره رائعا … قبيل امتحانات الثانوية العامة بأسابيع قلائل وقف أبي بالقرب من باب المدرسة كي ( يحجز ) لي السيارات حتي أعبر الطريق فإذا بسيارة مسرعة تصدمه فيدخل في غيبوبة لمدة أسبوعين … قلت لنفسي حينها لو مات أبي سيدفن حُلمي معه لكنه انتفض من جديد ليحملني إلي امتحانات الثانوية العامة فأحصل علي مجموع 81,5% ( أدبي ) سنة 1994م وكان مجموعا عاليا … لتبدأ حلقة كفاح أخري من كفاحه معي بين أروقة جامعة المنصورة – كلية الآداب – قسم اللغة العربية وآدابها – حيث كان مستقري وحلمي وطموحي وظل أبي مصرا ألا يتركني وحدي رغم طول المسافة بين منزلنا في سلامون وكلية الآداب في المنصورة فكان يركب ورائي الدراجة البخارية يوميا إلي الكلية ثم يعود إليَّ في نهاية اليوم ليصحبني إلي منزلنا في سلامون وأقسم أنه كان يحفظ جدول محاضراتي أكثر مني … حتي أصبت في حادث سيارة أقعدني في البيت عاما كاملا فكان يذهب إلي الكلية يوميا ليقابل زملائي ليأتي لي منهم بالمحاضرات فكأني حاضر بينهم .. بعدها أصر أن يضع نهاية لرحلتي الشاقة الشيقة الخطرة مع الموتوسيكل فباع منزلنا في القرية وانتقلنا لنعيش في المنصورة مدينتي الرائعة ليحقق لي حلما طالما حلمت به في أن أعيش بجوار كليتي التي أعشقها عشقا أسطوريا لأكمل دراساتي العليا وفي مرحلة الماجستير وبدايات الدكتوراه كان أبي عونا لي يذهب بالأوراق إلي المشرفين لأنهم في الأدوار العليا ويعود لي بما أحتاجه من مراجع فعرفه الجميع وكان مقدرا جدا من أساتذتي وزملائي … يسجلون في كل لحظة إعجابهم بكفاحه معي … ظل أبي يعطيني ولم يبخل فأذكر أنه كان مصرا أن يحملني علي كتفه عند سلم بيته – كما اعتاد دائما – كلما ذهبت أنا وأسرتي لزيارته وقد تجاوز السبعين .. وقد تجاوزت خمسا وثلاثين سنة …….. ليت أبا عمر يسمعني الآن … ليته يفهم … سأذهب إليه فورا … سأحدثه عن أبي المكافح … سأقنعه بكل ما أوتيتُ من منطق وعقل … أن يقف إلي جوار عمر .. سأحكي له تفاصيل حكايتي …سأقول له : تجلد واصبر ولا تبخل علي عمر … تأمل حكايتي … فلولا كتف أبي …. ما كنت وصلت …