… فجأة انقطع التيار الكهربائي، وخيم الظلام بأشباحه على المكان، تلك هي العادة في الريف المصري في فصل الشتاء، كان الصبي في غرفة جدته، تلك الغرفة الملكية التي لا يدخلها إلا هو وجدته فقط، فهو المسموح له دون بقية إخوته وأبناء عمه بالنوم فيها مع جدته ؛ لما له من مكانة عندها ، غرفة بسيطة الأثاث :سرير نحاسي ذو أعمدة طويلة تحمل (ناموسية) من القماش الأبيض، تقي النائم داخلها برد الشتاء، أشبه بخيمة الأعرابي، وفي ركن آخر (دولاب خشبي) أفقي، له باب علوي مقبب، أشبه بصندوق المجوهرات في قصة علي بابا، وكنبة صغيرة في مدخل الغرفة على اليمين. كانت الغرفة في آخر الدار، بعيدة عن صالة الجلوس، تشعر فيها بالدفء والسكينة بعيداً عن الضوضاء في بقية الدار. كان الصبي بمفرده في الغرفة، يجلس على السرير داخل (الناموسية) ملتحفاً بلحاف قطني ثقيل يذاكر دروسه، إلى أن يغلبه النعاس، فينام مكانه. كثيراً ما كان الصبي يخلو بنفسه؛ ليعيش عالمه الافتراضي الذي يرسمه له عقله، والذي يحقق من خلاله ما لا يستطيع تحقيقه في الواقع، فتارة يمتلك قوة خارقة يقضي بها على كل الأشرار من وجهة نظره، أو من تسول له نفسه الاقتراب منه، وتارة ينصب نفسه ملكاً متوجاً، يمتلك القصور والأموال والسلطة التي تجلب له السعادة المنشودة، وأحياناً ينظر من داخل (الناموسية) فيرى أشكالاً قد ارتسمت عليها من ظلال الضوء، فقد يرى فتاة جميلة مبتسمة، وقد يرى شبحاً مخيفاً يشبه (الغول) بأنيابه البارزة وعينيه الحمراوين، كما وصفته له جدته من قبل. بدأ الخوف يدب إلى قلبه مع انقطاع التيار الكهربائي، وتذكر في تلك اللحظة الحكايات والأساطير التي كانت تحكيها له جدته قبل النوم، أو يسمعها من بعض الفلاحين الذين كانوا يأتون إلى بيت العائلة، ويجلسون مع عمه الأكبر في غرفة الجلوس، وكلها حكايات مخيفة عن العفاريت التي رأوها، وبالرغم من الخوف الذي كان ينتابه، إلا أنه كان يحب سماعها، ويتخيلها بتفاصيلها كأنه جزء من أحداثها. كانت هناك حكايات كثيرة عن تلك العفاريت، فمنهم من كان عائداً من حقله إلى البيت بعد منتصف الليل، وإذا به يرى جاره يسير في منتصف الطريق ويناديه ليركب خلفه على حماره، وبالقرب من مدخل القرية يطلب منه الجار أن ينزله فإذا به ماعز (معزة)، فيسرع بقلب منتفض إلى بيته، ومنهم من رأى جنيّة تجلس على سطح الماء في منتصف الترعة تمشط شعر بناتها، ثم تشير إليه أن يسرع ولا يلتفت، ومنهم من رأى خروفاً صغيراً في الطريق فحمله إلى منزله وقبل أن يصل ينطق الخروف قائلاً : أنزلني هنا، حكايات وأساطير تناقلتها الأجيال، لكن كانت هناك حكايات لها وقع كبير على نفوس أهل القرية، وهذا ما تذكره الصبي وسيطر على فكره في تلك اللحظة. تذكر في تلك اللحظة حكاية المارد الذي قتل أحد شباب القرية …