بعد أن استبد الألم برئيس الوزراء الأسباني رومان ماريا أرفيز، وأدرك من حول سرير مرضه أنه قاب قوسين أو أدنى من الشهقة الأخيرة، اندفعت السيقان نحو منزل أحد الكهنة ليشهد صعود الروح المبجلة فوق الغمام. وحين احتل الكاهن مقعده إلى جوار وجه أرفيز، صوب سهام بصره نحو عينيه الغائرتين وسأل: "هل تقر سيدي بأنك قد سامحت من كل قلبك كافة أعدائك؟" فشق نارفيز ستائر عينيه المتهدلة ليفاجئ الرجل باعتراف مخيف: "ليس علي أن أسامحهم يا رجل. فقد تخلصت منهم جميعا." قد يدفعنا الغرور أحيانا لتجاوز المنطق والافتئات على الواقع، ولا يردعنا المرض وربما الموت عن الاستمرار في الادعاء الفج والتكلف الرخيص. فنجد أنفسنا نهرف في سرير الألم بجملة من الأكاذيب التي استمرأنا تكرارها طوال رحلة الحياة. لهذا لم يجد المتغطرس أرفيز حرجا في مراوغة من جاء ليعين روحه الشاردة على محنة الخروج من بوتقة الجسد، فختم رسالته الدموية في هذا العالم بأكذوبة كبيرة يخجل منها النبلاء ويتبرأ منها الساسة ويكذبها المنطق ويدحضها التاريخ. ربما تخلص ذلك المستبد ممن رفع صوته أو يده أو سلاحه معلنا تمرده على صاحب البطش والجبروت، فقتل منهم من قتل وشرد من شرد وسجن من سجن. لكنه نسي أن الأعداء القادرين على كشف وجوههم أضعف وأوهي بكثير ممن يجيدون ارتداء الأقنعة والتجمل باللباقة وذرابة الألسن. ربما تخلص الرجل من رؤساء المعارضة، فزج بهم في غياهب السجون أو سلط عليهم أمن دولته أو رجال مخابراته ففعلوا بهم ما فعل بختنصر باليهود يوما أو ما يفعله غلاة البوذيين في بورما بالأقلية المسلمة هناك حاليا. ربما قصف أقلام معارضيه أو صادر صحفهم أو أغلق بأمر قضائي قنواتهم الفضائية. فظن لوهلة أنه انتصر، ونام على سرير الموت لا يجد في مملكته ثمة عدو، وهو يعلم في أعماقه أن لاعنيه أكثر بكثير ممن يخطون له قصائد المديح بمداد الشهداء على صفحاتهم الباردة. لكن من اقتات على الكذب عمره، يصعب عليه الانسحاب من موائد الأكاذيب حين يشاركه كراسييها من هم على استعداد لتحمل المزيد من الترهات ساعة الموت. من المستحيل فعليا أن يتخلص المرء من كارهيه، ولو كان لبشر أن يفعلها، لصار الأباطرة والقياصرة أحب الناس إلى الخلق وأقربهم منهم مودة. لكن الحب والكراهية طرفا قضيب يتأرجح الناس فوقه يمنة ويسرة، وأقصى ما يمكن للمرء فعله أن يتطرف هنا أو يميل هناك. والمحبة والكراهية عملتان يتداولهما الناس في معاملاتها اليومية فيسرفون أو يقترون، لكنهم رغم أنوفهم مدفوعون إلى استخدامهما في البيع والشراء والمعاملات وسائر العلاقات. مسرف من يدعي أنه تخلص من أعدائه بصنوف القهر، فالبطش والتنكيل والسحل وقطع الألسن وتكميم الأفواه بريد كراهية لا يصل إلى الصندوق الخطأ أبدا. إنه قنبلة موقوته ستجد حتما من يشد فتيلها لتنفجر في وجوه المأفونين الذين يحسبون الصمت حلما والسكوت رضا. وكفى بالمرء فخرا أن يحصى مناوئيه وهو ممدد على سرير اللحظة الأخيرة ينتظر انتزاع الروح من غلالتها البشرية. الغريب أن أرفيز لم يخجل من تبجحه أمام محنة الصعود، ولم يخف بياض أسنانه وهو مقدم على أعظم مشقة وأشق رحلة. وكم من أرفيز بيننا تأخذه العزة بالإثم فيظن أنه قادر على سحق أعدائه والتنكيل بمعارضيه، لكنه لو قدر لأرافيز عالمنا العربي أن يشقوا عن صدور الناس ويعلموا خباياهم لأدركوا أن المعارضين الشرفاء خير من ملء الأرض من الجبناء والمنافقين الذين يشنفون آذانهم بالباطل. بالطبع لا يشمل مقالي هذا المعارضة العكاشية التي تعنى بإظهار المثالب وفضح الناس على رؤوس الأشهاد بالباطل والادعاءات المزيفة وتغييب العقل والوعي، وإنما أعني الشرفاء الذين يحملون أمانة الكلمة ولا يخشون قولتها عند سلطان جائر. **أديب مصري مقيم بالإمارات هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.