ينظر الفرنسيون بعين التقدير للجنرال شارل ديجول ويعتبرونه الأب الروحي للجمهورية الفرنسية الخامسة، فقد استطاع القائد الفرنسي الشجاع أن يخلص فرنسا من الاحتلال النازي البغيض عبر خطابه الحماسي الذي كان يبث من لندن فيلهب حماسة الفرنسيين ويشعل فتيل غضبهم على المستعمر. وقد كافأه الفرنسيون بإطلاق اسمه على أكبر مطار في فرنسا وثاني أكبر مطار بأوروبا كما أطلقوا إسمه على الشوارع والميادين والمتاحف ومحطات القطارات. أما عن حياته الخاصة، فقد ابتلي ديجول الأب بطفلة معوقة لا تستطيع أن تتناول طعامها أو ترتدي ثيابها إلا بمساعدة آخر، وبالطبع لم يكن ديجول هو ذلك الآخر لكثرة مشاغله. لهذا اكتفى الرجل بقيادة الدولة الناشئة وترك شئون البيت والطفلة لزوجته المخلصة. لكن تنشئة ديجول العسكرية لم تمنعه أبدا من هدهدة شجون طفلته المقعدة كما لم تمنعه مشاغله من الاختلاف إلى غرفتها لمشاركتها اللعب والعزلة. كان ديجول الشرس يمسك بيد طفلته في دعة حالمة ويربت بيده الأخرى على كتفها ولا يتركها حتى يُدخل الأحلام في عش نومها الهادئ. وحين ماتت الطفلة المسكينة وتبعها والداها في جنازة مهيبة نحو برزخها المؤقت، نظر ديجول إلى زوجته الثكلى وقد اغرورقت عيناه بدمع محتقن ليقول: "أخيرا أصبحت طفلتنا كبقية الأطفال." هكذا يجردنا الموت من عيوبنا وميزاتنا وينتزع منا أرواحنا وذكرياتنا، فتتساوى مع سكراته وزفراته كل الأنفس وتتلاشى أمام سطوته قوتنا وسلطاننا وتوسلاتنا الحمقاء. ولأننا نسقط على فراش العالم ساعة الولادة ونحن لا نعي شيئا من الموجودات حولنا ولا نجيد فن الضحكات البلهاء أو الصرخات اليائسة، فإننا لا نمارس دورا محوريا في محنة الميلاد، وكثير منا من يمر على محطات هذا العالم مكفنا في همومه وأحزانه فيكتفي بدور المتفرج الأبله من نافذة قطارنا الكوني حتى ينزل عنوة في محطة لا يختارها. أما الموت فهو أقدس من الميلاد والموت لأنه تجربة نلعب فيها دور البطولة ونقف فيها على خشبة المسرح وحدنا لنقول كلمات لا يمليها علينا أحد. ولعلنا نشعر بهيبة الموت ونتشارك خشيته لأننا ندرك في أعماقنا أن الرحلة إليه لن تكون سهلة وأن الانتقال من المعلوم إلى الغيب سيكتنفه حتما ما لا نحب أن نجربه من أحداث، ولأن من يذهب إلى هناك لا يعود لينبأنا بما سيكون من جليل أحداث، فإننا نخشاه كما نخشى السفر إلى بقاع لا نعرفها ولا نشارك أهلها اللسان أو التاريخ أو الهم. لكن عظمة الموت تكمن في غموضه وصمته، ولا أدري أكتسب الصمت قدسيته من الموت أم أن الصمت المصاحب للموت هو ما أضفي على الموت قدسيته. لكن الأكيد أننا ننسلخ من ذواتنا بمجرد انعتاق الروح من قفص الجسد. الأكيد أننا نفر من ذكرياتنا وتاريخنا وجلودنا المعروقة المغضنة لنجدها هناك في انتظارنا حين تتطاير الصحف ويقبض كل حي على مجلد أعماله التي لم يحصها والتي تناساها والتي لا يريد أن يذكرها. ولأن أحدا لا يمتلك صكا بالخروج الآمن من محنة اللقاء، فإننا نهرب من ذكر الراحلين ونتوجس خيفة من التقليب في ذكرياتهم المخجلة لأننا ندرك في أعماقنا أننا نمتلك رصيدا من الأخطاء يسمح لنا بالتغاضي عن أخطائهم والتخلي عن تبجحنا المعتاد أمام صمتهم المهيب. لهذا تغيض الكلمات من حلوقنا ونحن نقف أمام جثة عمر سليمان الذي شغل الدنيا بأفعاله وننظر إليه نظرة مهابة، لكنها ليست مهابة المنصب الذي كان له وأصبح شاغرا ذات شهقة، لكنها مهابة الصمت الأبدي الذي يطبق على أحقادنا ويخنق الإحساس بالشماتة في قلوبنا ويجردنا من أحاسيسنا الكاذبة بنقاء السريرة وطهارة اليد والارتفاع فوق ما نستحق. ذهب الرجل إلى ما قدم دون أن يقف وراءه أحد ليملي عليه ما يقول للملكين ساعة سؤال وترك لنا ألسنة يعقدها الخجل من الخوض في ذكراه التي حتما ستظل مثار حيرة لعقد أو عقدين على أقل تقدير. أديب مصري مقيم بالإمارات هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.