لأن راتبه الشهري الذي يتقاضاه من عمله لم يكف لشراء الستر والتعفف، اضطر أحد القضاة في بلاد حزينة كبلادنا أن يقترض ويستدين. ولأن النفقات كانت تتزايد بوتيرة لا تمكنه من سداد دينه، اضطر صاحبنا إلى الانزواء والادعاء، وكانت زوجته تنكر وجوده بالبيت كلما أطلت من نافذة الباب الضيقة ورأت أعين الديانة تنفث شررا. وحين ضاقت الزوجة المسكينة بحالها تلك، ذهبت إلى زوجها المتلحف بدثار مهترئ لتقول: "كيف تستطيع بالله أن تنام عن كل هذا الدين يا رجل؟" عندها أدار إليها زوجها وجهه متثائبا وقال: "لا تسأليني هذا السؤال يا امرأة؟ سلي أولئك الذين ناموا عن حقوقهم." كم كسب المراهنون على صمتنا جولات وصولات، وكم التصقت ألسنتنا المشققة من جفاف أمل بسقوف حلوقنا الضيقة، وكم نسينا الحروف وخانتنا اللغات، وكم ارتعدت فرائصنا وتآكلت مفاصل أقدامنا ونحن نقف على عتبات التاريخ نطالب بحقنا في الحياة كبقية شعوب الأرض، وكم خسرنا معارك لم نخضها وتنازلنا طواعية عن آمالنا البسيطة في لقمة عيش غير منقوعة في زيت الهوان. وكنا ندعي الشجاعة أمام المرآة وأمام الأطفال، ونفرط في إبراز أحبالنا الصوتية من شحوم رقابنا المكتنزة أمام زوجاتنا. لكننا كنا نشعر بالضعة والهوان أمامهم ونطأطئ رؤوسنا في حضرتهم حتى تلتصق أنوفنا بأحذيتهم الرخيصة إيثارا للسلامة وحرصا على حياة - أي حياة، وكأننا السارقون وهم أصحاب الغرم. وهكذا نام أصحاب السعادة عن حقوقنا، وسقطت ديوننا بالتقادم، وذهبنا إليهم نتسول شعاع النهار وقمر الليل وفراشا خشنا بجوار أي مقبرة. لم نطلب أكثر من كسرة خبز جافة ولم نتسول إلا ما يسد جوعة صغارنا، لكنهم أصروا على لحس أطباق النعم كلها واستكبروا استكبارا. لم نكن والله نريد صداما معهم، وكما نبحث في شقوق الممكن عن لقمة تعايش وطوقي نجاة. لكنهم تلذذوا بوقفتنا أمام حاويات التاريخ نبحث عن أي خيار بديل يقينا وإياهم شرور المواجهة. تلذذوا بغرق أطفالنا في برك المجاري وحمأة الفقر والجوع والمرض، وطاردونا في منافي التاريخ ليجهضوا العيون من آمالها والصدور من أحلامها ليصبح المستقبل كله لهم دون سواهم. وكاد يفلح مسعاهم حتى انفجر بركان الغضب في مراجل صدورنا دون تخطيط منا أو سابق ترصد. ووجدنا خيولنا الجامحة تتقدم نحو خطوطهم هلعا من صوت النفير، ووجدناهم ينهزمون أمام طموحاتنا المشروعة في العيش والحرية والكرامة. فاستقوينا بصهيل الخيل وصهيل الأحلام، وتقدمنا نحوهم بفروسية منتحر، فانهزم القوم أو كادوا، لولا تصارعنا على لجام الفرس وصهوته. ثم دارت كتيبتهم من خلف خطوط فهمنا حين غفلنا عن أمتعة وعينا، وأشبعونا رميا بالوعود والقنابل المسيلة للحقوق، وانشغلنا بسقط متاعهم، وضرب خيولنا من تحت الحزام في معركة غير شريفة بين إخوة كرامازوف الذين تعلموا القفز فوق مطالبهم المشروعة والذهاب نحو مفترق الطرق. لكنهم عادوا وتجمهروا حولنا في جلبة لا تخطئها أذن بصير، فأدركنا أنه قد أحيط بنا، وعرفنا مصدر السهام التي اخترقت كبد الوعي وفحولة الأحلام. فنهضنا من فوق تراب الهزيمة لننفض أجنحتنا المتعبة ونهدهد أرياشنا المتربصة برفيق الدرب والفقر والأمل. نهضنا - شكرا لتعجلهم إنهاء الثورة من أول جولة - بعد أن أفاقتنا طرقاتهم المتتالية فوق جماجمنا اللاهية، ووجدنا أنفسنا نتوجه دون وعي إلى أول الطريق لنبدأ معا من أول السطر حكاية جديدة، مسلحين بوعي أكبر وتصميم أشد على حياة تستحق أن نحياها. عدنا من نقطة الصفر إلى مياديننا المرهفة لنكمل غلالة الثورة ودثارها ونتقدم نحوهم دون خوف ودون خجل لأننا قررنا أن نطرق باب قاضينا المتغافل عن طرقاتنا حتى يخرج إلينا ويوفينا حقوقنا غير منقوصة. لن يستطيع قاضي القضاة سيد قراره أن يتهرب اليوم من ديانة التاريخ، ولن يهنأ بشربة ماء حتى يشبع آخرنا وترتوي دوابنا من نبع بلاد أنكرناها وأنكرتنا وتنازلنا عن حقنا فيها طواعية وتنازلت عن حقها فينا جبرا على مدار عقود. لن يهنأ قاضي القضاة برقدة هنيئة فوق أسرتنا الواسعة بعد اليوم وإن وضع وسادتين من طين فوق أذنيه، لأن أكفنا التي عرفت طريقها لن تتوقف عن طرق باب قضاءه الخفيض حتى يسمع، ولن تتوقف هتافاتنا الموحدة أمام قصره المنيف حتى يخرج إلينا أو يرحل عنا من باب التاريخ الخلفي. عبد الرازق أحمد الشاعر أديب مصري مقيم بالإمارات هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.