بقلم الكاتب صالح خريسات آمن أولاد أصحاب الفخامة، رؤساء الدول العربية، بالثورات البالية التي قادها آباؤهم في عصر التخلف والرجعية، واعتبروها ثورات جذرية وإنسانية أصيلة، حررت الأرض والشعب، ورددت أصداؤها في العالم كله، فهي أعمق من الثورة الفرنسية، وأعظم من الثورة الأمريكية، وأقوى من الثورة الصينية، ويجب أن تظل ثورات هؤلاء الآباء، هي المثال والقدوة. هذا يعني أن قادة الثورات العربية، أو الانقلابات العسكرية، أرادوا أن يعلموا الأجيال درساً في العمل السياسي النشط، وهو أن الثورة هي الطريق الوحيد إلى تحرير الأرض والإنسان. وبأن العمل الثوري وحده، هو السبيل إلى أن يتجاوز الإنسان وضعه المتردي، من الذل، والعبودية، والظلم، والاضطهاد، والاستبداد، والعبودية، والضياع، إلى الوجود الحر الكريم، الذي يتيح للإنسان في وطنه، أن يحقق ذاته، ويطور نفسه، بما يليق به كإنسان في عصر العلم والحضارة والتقدم. هذا ما أراد الإعلام الرسمي في البلاد الثورية أن يعلمه للأجيال المتلاحقة. ولأن استيعاب هذه الأجيال كان بطيئاً، بفعل عوامل داخلية كثيرة، وأهمها الأوضاع الاقتصادية، التي تعمد قادة العرب أن يشغلوا عقل الشباب العربي بها، وعدم وضوح المستقبل في أوطانهم، فساحوا في بلاد الله وتفرقوا، وذهبت قوة اجتماعهم، وجاء تجاوبهم مع الظروف المتردية متأخراً، وخرجت فئات الشباب وانضمت إلى صفوف الثائرين بالطريقة نفسها التي اتبعها قادة الثورات، والفرق الوحيد أن ثورات الشباب الحالية، ثورات سلمية حضارية، ضد أبناء جنسهم من الحكام الذين خانوا الوطن، وخانوا الأمة، وابتلعوا خيرات البلاد حتى أفقروها، في حين كانت ثورات القادة إما ضد الاستعمار، وإما ضد النظم الديكتاتورية المستبدة، وبدأت ثورات الشباب على عكس ثورات القادة المهزومين، بالمسيرات السلمية، على الرغم من تحرشات رجال الأمن لإفشال ثوراتهم، وانتهت بالاعتصام، ولم يفكر أحد من الذين شاركوا في هذه المسيرات، أن يخوض معركة مع النظام الحاكم، بل أنه اكتفى برفع صوته برسالة واضحة لا لبس فيها "الشعب يريد إسقاط النظام". وكلما فكرت في الأوضاع الدقيقة، والاضطرابات التي تعم الوطن العربي، يثب إلى خاطري السؤال الآتي: هل كان الشباب العربي في حاجة إلى الثورة؟ ووجدت أن السؤال في غير محله، لأن الواقع أجاب عنه بقيام الثورة فعلاً. ثم عدت بالسؤال إلى التاريخ نفسه: لماذا قامت الثورة في تونس؟ وما هو دور المجاهد الكبير؟ وما هي وعوده؟ وكيف وصل إلى السلطة؟ ولماذا قامت الثورة في ليبيا؟ كيف بدأت؟ وما هي وعود العقيد القذافي؟ وماذا تحقق منها؟ ولماذا قامت الثورة في اليمن؟ وفي سورية؟ وفي العراق؟ وفي مصر؟ وما هي نتيجة المقارنة بالعهد السابق للثورة؟. ويتساءل الناس هل كان في كل هذه الثورات شيء جديد؟ ألم تكن الحكومات معروفة من قديم؟ ألم يكن التشريع قديماً وله رجاله القدماء؟ ثم ألم يكن القضاء قديماً وكان القضاة؟ وفي الواقع، كان الحكم في الدول حكماً مطلقاً، يتخذ السلطان من البطانة ما يتخذ، ولا يغير ذلك من أمر الاستبداد القائم. ومن الاستبداد تعيين القضاة عندما يريد السلطان، أو تريد بطانته، وأحكامه إن جاز لها أبداً أن تتم، كانت دائماً تضل طريقها عند النفاذ وهي تسير إلى أبواب الأقوياء، وما أسرع ما تهتدي إلى أبواب الضعفاء. لقد وعد قادة هذه الثورات، الشعب بالوفرة والأمان والسلم، إذا وافق على التنازل عن تركته في الحرية، وعن كرامته الإنسانية. لكن الوعود لم توف، وخلال صعود هؤلاء على أكتاف البسطاء، منذ قرن تقريباً، فاضت الجماهير العربية بعمق أكثر فأكثر، في الفوضى والانشقاق، ووجدت آمالها مغتصبة أكثر فأكثر. إن قادة الثورة أضعفوا الاقتصاد الذي فيه يكسب الناس وسائل حياتهم، وبدو عاجزين عن تدبير الاقتصاد الاجتماعي، لأنهم رفضوا الاتعاظ بدروس تجارب الشعوب الحية، في تنظيم مختلف المصالح البشرية عن طريق القانون. وقد ظلوا حتى حين يحيون النزاعات التافهة بين السكان، من أجل بقائهم في السلطة. ويتهمون الجماهير بالتخلف والجهل ومقاومة الاستقرار في ظل العبودية والاستبداد. فهذه الثورات التي قادت صغار السياسيين في عصرنا، إلى السلطة، على ما نجده في الواقع، كارثة تلحق بالشؤون الإنسانية. إن هذه الثورات وغيرها مما وقع في التاريخ الإنساني، تنبئنا بحقيقة واحدة، أن الشيء الذي لا ينال بالرضا، قد ينال غصباً. والقائمون بالثورة مغامرون، وهم كذلك مقامرون، والخسارة هنا ليست خسارة مال، إنما خسارة أرواح، فما يقوم بالثورة عادة إلا يائس، واليائس قد يكون على صواب، وقد يكون على خطأ. ولكن في الثورات العالمية التاريخية الكبرى، كان اليائسون فيها على صواب، وإلا ما أنتجت خيراً، ومحمد صلوات الله عليه، ثار وما أنتجت ثورته إلا خيراً، وعيسى صلوات الله عليه، ثار وما أنتجت ثورته إلا خيراً، وأحسب أن الشباب العربي الآن على صواب، فقد أخذ قادتهم من الزمان ما يكفي لإثبات نزاهتهم وحسن نواياهم في سدة الحكم، لكنهم استخفوا أقوامهم، واستبدوا بهم، وحرموهم حريتهم، وأهانوا كرامتهم، واستحوذوا على خيرات الوطن يتوارثونها كأنها ملكاً لهم، فحري بالشباب أن ينهضوا لمحاسبتهم، وهذا حق مشروع في كل الديانات السماوية والوضعية، ولا خير في الشباب إن لم يفعلوا، فإن قادة العرب يمنون على الشباب بادعائهم قيادة الثورة، وإن كانت كل ثوراتهم فاشلة. وقوم ثاروا لربهم، وقوم ثاروا لأوطانهم، وأفراد ثاروا لكرامتهم في الحجرة الواحدة المغلقة، فكسبوا أو خسروا، وما سمع بهم أحد، ومن الأشرار من قادوا الأشرار والأبرار معاً إلى الثورة، وما ثاروا وإنما أثاروا والشيطان رائدهم.