بقلم د. خالد تركي حيفا سنعود ونجدِّد العهد والوعد والقسم ونبيِّض صفحةَ شعبنا ووجهَ الذي استبشر فينا خيرًا وبرًّا يومَ اعتبرنا، ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ..﴾ وسنجدُ الخير الذي تفاءلنا به وسنستمرُّ بتفاؤلِنا، وسنحافظ عليه ونخبِّئه في أفئدتنا وفي مآقينا ليبقى الخيرُ في أمَّتنا إلى يوم الدِّين.. ما نراه اليوم في مغربنا العربي وفي أرض الكنانة وفي باقي الوطن العزيز، يشير إلى أنَّ الخير والأمل وعزَّة النَّفس والشَّجاعة ما زالت فينا وأنَّ شعوبنا قد تحرَّرت من سجن الخوف وشعور الكرب وكابوس الإحباط وعَبَرَت حواجز الظُّلم وعبَّرت عن شعورها هذا بشكلٍ واضِحٍ، بعد أن نزلت جماهير شعبنا العربيّ الأبيّ في مصر، المسالمة والمؤمنة بصدق طريقها وشرعيَّة مطالبها، بجميع شابَّاتها وشبابها وجميع فئات شعبها لاحقًا، إلى الشَّوارع وميادين المدن الرَّئيسيَّة لتضع حدًّا للظُّلم والجوع والفقر والعَوز والفساد والإهانة والمهانة بعد أن بلغ سيْلُ طاغوت مصر الزُّبى، وطفح كيلُهما، آملين أن تكون آخرة جميع الطَّواغيت مطابقة لما حدث في تونس ومصر.. لقد ذُقنا مرارةَ عيشِهم وذُلِّهم منذ اللحظة التي عبرنا فيها نقطة طابا (الواقعة بين جنوب بلادنا وشبه جزيرة سيناء)، فهذا الضَّابط يسألك عن "حاجة حلوة يا بيك" وذاك يسألك عن سيجارة، وآخر يطلب منك دواءً أيًّا كان.. يُنهكك تعب هذا الشَّعب الغالي على قلبك حين يبدأ "يفضفض" عن حاله ويُخرِج ما في ثناياه من غُلب وغُبن وشقاء وتعاسة، فكيف لك السَّكينة وأنت منذ أن تستقلَّ سيَّارة الأجرة وتستلم غرفتك في الفندق لتستريح من عناء السَّفر وأنت تسمع شكاوى النَّاس وعوزهم، وكيف لك أن تهنأ برحلتك حين تعلم أنَّ سائقي سيَّارة الأجرة وفرَّاشي الفنادق والعاملين في الصَّيانة والنَّظافة هم خرِّيجو معاهد عُليا وأكاديميُّون، وما أصعب القناعة التي تصل إليها حين تجدهم يختارون المُرَّ، حتَّى يتجنَّبوا الذي أمَرَّ منه.. ويترك عندك، هذا، انطباعًا أن أرض الكنانة تعيش حالة يأس وبؤس من بابها إلى محرابها، فلماذا لا يخرجون شاهرين سيوفَهم، كحديث الإمام علي بن أبي طالب (كرَّم الله وجهه): عجبتُ لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج إلى النَّاس شاهرًا سيفه. حين أتى والديَّ لزيارتي لحضور حفل تخرُّجي من جامعات تشيكوسلوفاكيا الاشتراكيَّة، كانت لنا محطَّة في العاصمة النَّمساويَّة فيينا، لترتيب أوراق عبور الحدود، وعندما نزلنا الفندق هناك، التقينا بنادلٍ عربيٍّ مصريٍّ، يرفض التَّحدُّث معنا بالعربيَّة، الأمر الذي أثار استياء والدي واستغرابه، خصوصًا بعد أن عرف أنَّه من مصر عبد النَّاصر، فكيف له أن يخجل بلغته وعروبته وانتمائه وتاريخه، تساءل والدي أبو خالد، ولَم يهدأ والدي إلا بعد أن ناقشه نقاشًا عصيبًا ومريرًا وكأنَّك يا أبو خالد تضرب بطبلٍ عند أطرش، لقد كان النَّادل يجيد جلدَ الذَّات وتعذيبها ويتقن دربه في الإحباط.. أين ذهب هذا الجندي الذي عَبَرَ القناة، وعَبَرَ الهزيمة، أين هم ساكنو البيوت في السِّويس التي أنشد لها محمَّد منير "يا بيوت السِّويس يا بيوت مدينتي استشهد تحتك وتعيشي إنت" وأين هم شباب عبد النَّاصر وشباب معين بسيسو وأحمد فؤاد نجم والشِّيخ إمام وسعد الدِّين الشَّاذلي وخالد محيِّ الدِّين والشَّهيد شهدي عطيَّة الشَّافعي..لقد وجدناهم في ميدان التَّحرير صامدين وينشدون بكرةً وأصيلا، النشيد الوطني "بلادي بلادي بلادي لك حبِّي وفؤادي" وبهذا يكون قد تطهَّر النَّشيد من تلويث شِلَّة الفرقة العسكريَّة المصريَّة بقيادة محمَّد عبد الوهاب التي عزفته على مسمع من بيغن والسَّادات في مطار بن غوريون.. وحين قرَّر طاغوت مصر المخلوع دسَّ سمِّه في الدَّسم بعد أن حثَّ "بلطجيَّته" (رجال الشُّرطة في ألبسة مدنيَّة) على سرقة المتاحف وإضرام النَّار فيها وفي مكاتب حكوميَّة أخرى ومراكز شعبيَّة لتشويه مسار الانتفاضة المصريَّة الباسلة وحثَّهم كذلك على الاعتداء على المتظاهرين المسالمين المعتصمين بالحديد والنَّار في أرجاء القُطر العربيّ المصريّ.. ذكَّرتني هذه الأحداث، بما حدَّثني والدي، عندما كانت السُّلطة في بلادنا، في خمسينات وستِّينات القرن المنصرم، تحرِّض عملاءها من العرب على الاعتداء على نوادي حزبنا الشُّيوعي وعلى اجتماعاتنا ومظاهراتنا، ففشلوا وسقط العملاء وسقطت أقنعتهم عن عوراتهم وبقي حزبنا شامخًا وراسخًا بين جماهير عمَّاليه وفلاحيه ومثقَّفيه.. كذلك سيسقط طاغوت مصر وستبقى مصر عربيَّة عزيزة وشريفة وستعود إلى حضن شعبها الدَّافئ وإلى حضن الوطن العربيّ الكبير.. بَحِبِّك يا مصر، فعانقي الشَّام الشَّقيقة..وأدعوكِ كدعوة حبيبي أبو عايدة: فَانْهَضِي يَا مِصْرُ شَعْبًا قَدْ تَحَدَّى شَرَّ أَقْسَى مُجْرِمٍ فِي الظَّالِمِينَا وَارْفَعِي شَهْمًا كَرِيمًا دَكَّ صَرْحًا مِنْ صُرُوحِ الظُّلْمِ مَرْفُوعًا جَبِينَا