أنت أيها الصيام يا حواري الأنبياء ، يا سدرة منتهى الإنسان،ما فتئت والله تنير الزمان ، وتهدي الحيران ، بالجوع والصبر للظمآن ، أهلك ما أهلك ، وما أدراك ما أهلك ؟ قوم ُ خلقهم القرآن وسنة من جاء بالفرقان دعني أسبل في فضلهم مدائحي،وأبسط لهم جوانحي وأصل ماضي الأمة فيك بحاضرها . خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان لعبادته ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) . وفرض عليه من العبادات والمجاهدات ما يؤهله للنهوض والإرتقاء بروحه إلى مصاف الملائكة،فتظهر عليه الفتوح ويلوح عليه جمال الروح وتعرج روحه إلى ملكوت رب العالمين فتتمتع بالتجليات التي يكاشف بها أهل العنايات ( وكذلك نُري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين ) . ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات ) . وإن من أجل العبادات التي يتقرب بها العبد إلى ربه،وينال بها وصاله وقربه ويسعد بها في الدارين عبادة الصيام فكانت ومازالت وستظل طريق السائرين إلى حضرة رب العالمين وكيف لا وقد قال ربنا سبحانه وتعالى وهو أصدق القائلين : ( يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) . ولما كان في الصوم من المعاني الطيبة والخصال الحميدة خصه الله تعالى بذاته ولم يكله إلى الملائكة بل تولى جزاءه بنفسه فأعطى الصائم أجراً من عنده فقال : ( كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه من أجلي ) . ولذلك كان الصيام عبادة من أجل العبادات، وقربة من أعظم القربات، وهو دأب الصالحين وشعار المتقين، يزكي النفس ويهذب الخلق، وهو مدرسة التقوى ودار الهدى، من دخله بنية صادقة واتباع صحيح خرج منه بشهادة الاستقامة، وكان من الناجين في الدنيا والآخرة، وعليه فلا غرو أن ترد في فضله نصوص كثيرة تبين آثاره وعظيم أجره، وما أعده الله لأهله، وتحث المسلم على الاستكثار منه، وتهون عليه ما قد يجده من عناء ومشقة في أدائه. وقد ورد في فضل الصوم: أنه جُنَّة -أي وقاية وستر- فهو يقي العبد من النار، روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الصوم جنة يستجن بها العبد من النار) . ومما ورد في الصوم أيضا أنه: يكسر ثوران الشهوة ويهذبها، لذلك أرشد عليه الصلاة والسلام الشباب الذين لا يستطيعون الزواج، أن يستعينوا بالصوم ليخفف من شهواتهم، فعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) . وورد أن الصوم سبيل من سبل الجنة وباب من أبوابها، فقد روى النسائي عن أبي أمامة رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، مرني بأمر ينفعني الله به، قال: (عليك بالصوم فإنه لا مثل له)، فبين عليه الصلاة والسلام أنه لا شيء مثل الصوم يقرب العبد من ربه جل وعلا، وأخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، أن في الجنة باباً خاصاً بالصائمين لا يدخل منه غيرهم، ففي الحديث المتفق عليه عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن في الجنة بابا يقال له الريَّان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق، فلم يدخل منه أحد). وورد أيضاً أن الصيام يشفع لصاحبه يوم القيامة، فقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيُشَفَّعان). والصوم من أعظم أسباب مغفرة الذنوب وتكفير السيئات، ففي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، أي: إيماناً بأن الله فرض الصوم عليه، واحتساباً للأجر والمثوبة منه سبحانه وتعالى . والصوم سبب في سعادة الدارين، ففي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه)، فعند فطره، يفرح بما أنعم الله عليه من القيام بهذه العبادة وإتمامها، وبما أباح الله له من الطعام والشراب الذي كان ممنوعاً منه حال صيامه، وعند لقاء الله يفرح حين يجد جزاء صومه كاملاً في وقت هو أحوج ما يكون إليه. ومن الفضائل أن خلوف فم الصائم -وهي الرائحة المنبعثة من فمه نتيجة خلو المعدة من الطعام- أطيب عند الله تعالى من ريح المسك، فهذه الرائحة وإن كانت مكروهة عند الخلق، إلا أنها محبوبة عند الله جل وعلا، لأنها من آثار العبادة والطاعة، وهو دليل على عظم شأن الصيام عند الله سبحانه وتعالى . واعلم أن الصيام على ثلاث درجات: صوم العوام، وصوم الخواص، وصوم خواص الخواص. أما صوم العوام: فهو الإمساك عن شهوتَي البطن والفَرْج، وما يقوم مقامَهما من الفجر إلى الغروب، مع إرسال الجوارح في الزلاَّت، وإهمال القلب في الغفلات. وصاحبُ هذا الصوم ليس له من صومه إلا الجوع، لقوله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ لم يَدَعْ قولَ الزُور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أنْ يدع طعامَه وشرابَه " . وأما صوم الخواص: فهو إمساك الجوارح كلَّها عن الفَضول، وهو كل ما يشغل العبد عن الوصول، وحاصلُه: حفظ الجوارح الظاهرة والباطنة عن الاشتغال بما لا يَعْنِي. وأما صوم خواص الخواص: فهو حفظ القلب عن الالتفات لغير الرب، وحفظ السر عن الوقوف مع الغير، وحاصله: الإمساك عن شهود السَّوى، وعكوفُ القلب في حضرة المولَى، وصاحب هذا صائم أبداً سرمداً. فأهل الحضرة على الدوام صائمون، وفي صلاتهم دائمون . فأنعم بهؤلاء القوم وهم خواص الخواص الذي يصفهم أبو بكر الكلاباذي في قوله : (سبقت لهم من الله الحسنى،وألزمهم كلمة التقوى،وعزف بنفوسهم عن الدنيا،صدقت مجاهداتهم فنالوا علوم، الدراسه،وخلصت عليها معاملاتهم فمنحوا علوم الوراثه،وصفت سرائرهم فأُكرموا بصدق الفراسه،ثبتت أقدامهم،وزكت أفهامهم،وأنارت أعلامهم،فهموا عن الله،وساروا إلى الله،وأعرضوا عما سوى الله،خرقت الحجب أنوارهم،وجالت حول العرش أبصارهم،فهم أجسام ُروحانيون،وفي الأرض سماويون،ومع الخلق ربانيون،سكوتُ نُظار،غُيّبُ لكن حُضّار،ملوكُ تحت أطمار،أنزاعُ قبائل،وأصحابُ فضائل،وأنوار دلائل،آذانهم واعيه،وأسرارهم صافية،ونعوتهم خافية،صفوية صوفية،نورية صفية،ودائع الله بين خليقته،وصفوته من بريته،وصاياه لنبيه،وخباياه عند صفيه،هم في حياته أهل صفته،وبعد وفاته خيار أمته،لم يزل يدعوا الأول الثاني،والسابق التالي،بلسان فعله أغناه ذلك عن قوله ) . يقول الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي عن صوم العارفين : هو صوم من تولاهم الله بالإمساك عن أنفسهم وجوارحهم وانتقلوا من بشريتهم إلى عقلهم ، العقل المحض حيث لا شهوة عندهم وكمل نهارهم ففارقوا الإمساك والتحقوا بعالم الأمر . ويقول القشيري عن صوم العابدين : ( هو صون اللسان عن الغيبة ، وصون الطرف عن النظر بالريبة وهو حفظ السر عن شهود كل غيره ) . بينما يقول أحد العارفين بالله : ( الصائمون : هم الممسكون عما لا يجوز في الشريعة والطريقة بالقلب والقالب فيصوم القالب بالإمساك عن الشهوات ويصوم القلب بالإمساك عن رؤية الدرجات والقربات ) . وختاماً فما أجمل قول العارف بالله ابن عجيبة رضي الله عنه في إشاراته العرفانية حول قول الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ) . كُتب عليكم الصيام عن الحظوظ والشهوات، كما كتب على مَن سلك الطريق قبلكم من العارفين الثقات، في أيام المجاهدة والرياضات، حتى تنزلوا بساحة حضرة المشاهدات، لعلكم تتقون شهود الكائنات، ويكشف لكم عن أسرار الذات، فمن كان فيما سلف من أيام عمره مريضاً بحب الهوى، أو على سفر في طلب الدنيا، فليبادِرْ إلى تلافِي ما ضاع في أيام أُخر، وعلى الأقوياء الذين يُطيقون هذا الصيام، إطعام الضعفاء من قُوت اليقين ومعرفة رب العالمين. فمَنْ تطوع خيراً بإرشاد العباد إلى ما يُقوِّي يقينهم، ويرفع فهو خير له. وأَنْ تَدُوموا أيها الأقوياء على صومكم عن شهود السَّوَى، وعن مخالطة الحس بعد التمكين، فهو خير لكم وأسلم، إن كنتم تعلمون ما في مخالطة الحس من تفريق القلب وتوهين الهمم، إذ في وقت هذا الصيام يتحقق وحي الفهم والإلهام، وتترادف الأنوار وسواطعُ العرفان. فمن شهد هذا فَلْيَدُمْ على صيامه، ومن لم يَقْدِر عليه فَلْيَبْكِ على نفسه في تضييع أيامه. جعلنا الله من القوم العارفين به سبحانه وتعالى وأدخلنا في معيته يوم يساق أهل الشر إلى سقر وأهل الخير إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر .