بقلم علي بدوان قطعت مصر وثورة الخامس والعشرين من يناير، خطوة نوعية جديدة على طريق طويل، سكته مليئة بالعثرات في ظل التراجع العام لأوجه الحياة الاقتصادية للناس ولعموم مصر التي استباحتها مجموعات «القطط السمان» التي أكلت الأخضر واليابس ونشرت الفساد على امتداد مصر، من أقطاب البرجوازية المحلية والكومبرادور، والأرستقراطية المنتفعة، التي لاتريد أن ترى وجهاً جديداً لمصر بإشراقة سياسية مغايرة، وهم الذين مازالوا يعشعشون في أجهزة الدولة ومفاصلها منذ أكثر من ثلاثة عقود ونيف، ومعهم طبقة نمت بالتدريج وباتت صاحبة مصالح طبقية في عودة الفلول الى مواقعهم في تقرير الشأن المصري وادارة مصر مرة ثانية. ان الطريق الطويل أمام مصر لاستعادة دورها المفقود واستعادة عافيتها، ربما سيكون طريقاً شائكاً في مسيرة اعادة حضور مصر بوزنها الحقيقي والتاريخي الى الخريطة الاقليمية بعد أكثر من ثلاثة عقود ونيف من التهميش والتبعية، ومن البقاء تحت سقف المعادلة التي أعلنها أنور السادات عام 1975، والتي تقول بأن أكثر من (99 %) من أوراق الحل لأزمات المنطقة بيد الادارة الأميركية وحدها لا غيرها. وبالطبع، وعند الحديث عن المرحلة الجديدة، وهي مرحلة حساسة وحاسمة، التي قطعتها ثورة الخامس والعشرين من يناير بعد انتهاء العملية الانتخابية وصعود الدكتور محمد مرسي كرئيس مدني منتخب للجمهورية، فإن ارثاً ثقيلاً وموجعاً ومرهقاً يتوقع له أن يضغط بشكل كبير على كاهل الرئيس الجديد المنتخب، وعلى كاهل عموم الشعب المصري. كما يتوقع أن تكون من الآن وعلى طاولة الرئيس محمد مرسي مجموعة من الملفات الصعبة التي تلخص مرحلة كاملة من الصراع الذي دار طوال ثلاثة عقود ونيف، لتهميش مصر والاستيلاء على قرارها السياسي وحتى على قوتها اليومي وربطه بسلة القمح الأميركية والمساعدات الخارجية بما فيها المساعدات العسكرية الأمريكية عندما تم احداث انقلاب كامل في العقيدة العسكرية وفي التسليح العام للجيش المصري منذ العام 1975 . فكيف نرى الأمور الآن، وماهو المطلوب من الرئيس الجديد في الفترة التالية من حياة مصر والشعب المصري الذي نزل الى الشوارع بالملايين ...؟ ضرورة الانفتاح على الجميع للاجابة على التساؤلات اياها، نبدأ القول بأن المرحلة الجديدة من حياة مصر، تتطلب من الرئيس المنتخب الدكتور محمد مرسي الانفتاح والتواصل قبل كل شيء مع كل ألوان الطيف السياسي والأيديولوجي الفكري في الشارع المصري، وعلى عموم القوى والفعاليات التي ساهمت بانتصار الثورة مهما كان حضورها ولونها السياسي، خصوصاً قطاعات الشباب الذين نزلوا بالملايين الى الشوارع والساحات من أجل مصر ومن أجل اعادة العزة لها. فالرئيس الدكتور محمد مرسي هو الآن رئيس لكل مصر ولكل المصريين، وليس رئيساً لحزب او اتجاه معين. وهو مايفترض منه ضرورة الاقدام على اتخاذ خطوات ايجابية اضافية وتقديم المزيد من الطمأنينة للشارع المصري ولبعض المتذمرين المتأثرين بالدعاية الخارجية وحتى المحلية ممن يخشون احتكار الاسلاميين للمؤسسات الحاكمة، وحتى يشعر الأقباط والليبراليون العلمانيون بأنهم شركاء في الوطن ولاخوف على حرياتهم. وفي هذا السياق، فقد كان المرشح محمد مرسي شجاعاً وفصيحاً في مؤتمره الصحافي بعد اعلان النتائج، عندما خاطب الشعب المصري ككل انطلاقاً من اصراره على بناء مصر الديمقراطية والحديثة، والحفاظ على التعددية واحترام خيارات الناس، والانفتاح على الجميع، وخروجه من عبائته الحزبية ليصبح رئيس كل مصر وكل المصريين وليس كعضو أو كقيادي في حزب جماعة الاخوان المسلمين. ان انفتاح الرئيس المنتخب على جميع القوى وأطيافها الفكرية والسياسية، يعني بالضبط تكريس القناعات التي طرحها الدكتور محمد مرسي في خطابه وبرنامجه الانتخابي، وفي خطابه التالي قبل وبعد الادلاء بالقسم أمام المحكمة الدستورية العليا، على أساس الايمان الراسخ بالتعددية السياسية والفكرية، وضرورتها الوطنية، وعلى أساس كَسر احتكار السلطة الآن وفي المستقبل من قبل أي طرف مهما علا شأنه ونفوذه بحياة الناس وفي الشارع. من هنا، أهمية استيعاب كافة التوجهات الايديولوجية والسياسية الوطنية واحداث التوازن فيما بينها وهو تحدٍ بالغ الصعوبة يضع الرئيس الجديد أمام محك الاختبار العملي، وقد أحسن الرئيس مرسي في اتخاذ قرار بتشكيل مجلس استشاري يضم ممثلين من جميع القوى الموجودة في الشارع المصري، لاستشاراتهم في القرارات والعناوين والقضايا المهمة في مسار عمله كرئيس لمصر وكل المصريين. وفي هذا السياق فإن ماذُكر عن امكانية قيام الدكتور محمد مرسي باستصدار قرار يعتزم فيه تعيين عدد من النواب من بينهم قبطي وامرأة، خطوة نوعية ممتازة تبعث على الارتياح والطمأنينة وتدل على مستوى عالٍ من التفهم والادراك، وتكريساً للمشاركة الوطنية من قبل الجميع، فضلاً عن كونها خطوة تتخذ لأول مرة في تاريخ مصر المعاصر. ان، الايمان الراسخ بالتعددية والديمقراطية وصندوق الاقتراع، وترجمة هذا الايمان على أرض الواقع قولاً وعملاً، يعني بالضبط تشكيل حكومة كفاءات بعيداً عن الانتماء السياسي والفكري لأصحابها وتوسيع دائرة المشاركة من الجميع، وهو الطريق السليم لرص الصفوف في مصر أولاً. كما هو الطريق الحقيقي لتمتين الجبهة الداخلية في مصر وتحقيق الاستقرار السياسي ثانياً. كما هو الوسيلة الأنجع لكسب كل القوى وتقديم الضمانات الحقيقية لها باعتبارها قوى شريكة وأصيلة في بناء المجتمع وبناء مصر الموعودة وصياغة قرارها الاستراتيجي على كل الصعد ثالثاً. كما هو ضرورة لإعادة بناء الاقتصاد المصري عبر تقديم التطمينات والضمانات بالقانون وبالممارسة حتى يتمكن الجميع من الاسهام في ذلك خصوصاً من قبل البرجوازية الوطنية والقضاء على قلق رجال الأعمال من انعدام الاستثمار وتغيير واقع الاقتصاد المصري رابعاً. كما هو طريق لابد منه لطمأنه الأخوة الأقباط من أبناء مصر باعتبارهم جزءاً لايتجزءاً من النسيج الوطني العام في مصر، وكف يد التدخلات الخارجية ومحاولات اللعب على الوتر التقسيمي الطائفي خامساً. أعباء الملف الاقتصادي ان أعباء الملف الاقتصادي هائلة ومتراكمة، وتشكل المسألة الكأداء على طاولة الرئيس محمد مرسي، والتحدي الأبرز الذي تواجهه قيادته للبلاد أكثر من مواجهة الملف السياسي بتشعباته وتعقيداته الكبيرة، حيث لايمكن انجاز تحول ايجابي وملموس في هذا الملف بضربة واحدة أو بكبسة زر كهربائي، فهو ملف يحتاج لجهد كبير لن يكون أسهل من الجهود التي أوصلت الناس لانتصار ارادتهم في احداث التغيير في مصر وشق طريق التحول الديمقراطي الحقيقي. وفي واقع الأمر، ان مصر تمر بأزمة اقتصادية خانقة قبل الثورة بسنوات طويلة نتيجة هذا الارتهان المهين الذي تم وضع البلاد فيه زمن السادات وحسني مبارك، كما ترافق مع ذلك الارتهان هيمنة مجموعات «القطط السمان» الذين تبين دورهم المؤذي في حياة مصر من خلال انكشاف أدوارهم وقيامهم بابتلاع الاقتصاد الوطني ومركزة رؤوس الأموال بين أيديهم وقيامهم بتهريب المال العام. ان كل ذلك يعني ان على الرئيس الجديد وطاقمه الاقتصادي المفترض ابتكار الحلول الحاسمة لتعديل المسار الاقتصادي في البلاد، ربما من خلال اتخاذ خطوات تنفيذية محددة على أكثر من صعيد ومنها استعادة الأموال المنهوبة التي تقدرها العديد من الجهات بأرقام فلكية، والاتجاه لزيادة الانتاج وطمأنة رجال الأعمال لجذب استثمارات جديدة محلية وعربية وأجنبية وتهيئة المناخ الاقتصادي للنهوض بمعدلات التنمية، وابتكار واشتقاق كل مايمكن من أفكار لحل المسائل المتعلقة بعجز الموازنة، اذ تشير البيانات الى أن عجز الموازنة يصل الى حدود (144) مليار جنيه وفق أغلب المصادر الموثوقة، فضلاً عن تراجع مداخيل السياحة، والبطالة اذ تشير التقديرات الى أن هناك أكثر من ستة ملايين عاطل عن العمل، مما يعنى أن معدل البطالة في مصر أكثر من عشرين بالمائة ...الخ. وفي هذا السياق، نشير الى مجموعة من التقارير الدولية الصادرة عن جهات أكاديمية معروفة ومعترف بها. فقد أوردت مؤسسة (ستاندرد آند بورز) التصنيف الائتماني للعملة الأجنبية في مصر على المدى البعيد، وأبقت علي توقعاتها السلبية الخاصة بمصر بسبب التراجع الحاد لاحتياطي البلاد من العملات الأجنبية، واستمرار المخاوف بشأن الاستقرار السياسي، وهو أمر يؤثر على القطاع المصرفي بشكل كبير بسبب تخفيضات التصنيف الائتماني لمصر، اذ تطلب البنوك العالمية تغطية الاعتمادات المستندية بنسبة مائة بالمائة، والاستيراد مائة بالمائة، وهذا ما سيؤدي الى التأثير في الشارع وفرص العمل والصناعة. وعليه، فان تجاوز وكَسر التقديرات التي نشرتها الجهات والمؤسسات الدولية عن الاقتصاد المصري ومطباته وثغراته، مهمة عاجلة من أجل طمأنة الجميع خصوصاً قطاع المستثمرين، وفتح طريق التعاون الحقيقي والشفاف والبنّاء مع الجهات الدولية المختلفة بما فيها البنك الدولي وبنوك الاستثمار والتمويل والمستثمرين العرب الخليجيين الذين يطمحون للاستثمار في مصر باعتبارها بلداً واعداً لجهة توفر اليد العاملة والكفاءات المحلية وكسوق كبير. أخيراً، أن الازدهار الاقتصادي سيعطي نتائجه المباشرة على دور مصر السياسي في البيئة الاقليمية والدولية، وهو أمر يتطلب في المقام الأول توافر الاستقرار الاجتماعي والأمن المجتمعي للناس في عموم مصر.