بقلم د. رفيق حاج لعبة كرة القدم تُكسب لاعبيها اللياقة البدنية عالية وتُطلعهم على اسس تنظيميه هامة وتُكسبهم قيماً تكون لهم عونا في الحياة العادية كالتعاون والتحلي بالروح الرياضية وإيثار الروح الجماعية على الفرديه والاستبسال بالدفاع عن "البيت" والتعرّف على مصطلحات هامة ك"الاستراتيجية" و"خطة" اللعب والطاعة المؤسساتية والعمل في نطاق التعريف الوظائفي وغيرها. في هذه الايام من الصعب الدفاع عما يدعيه عنوان المقالة. كرة القدم "لعبة تربوية"؟! هل يُعقل؟! ومن يدّعي ذلك عليه ان يفسّر لنا ظواهر العنف المشينة التي برزت مؤخرا في ملاعب البلاد حيث قام لاعبون ومدربون واداريون بلطم وركل بعضهم البعض وكأنهم في حلبة "الكيك بوكس" هذا بالاضافة الى الشتائم من العيار الثقيل التي تتطرق الى الاعضاء التناسلية لأمهات واخوات اللاعبين وخياراتهم الجنسية ناهيك عن التفوهات العنصرية التي اصبحت جزءاً من المشهد العام في الملاعب. اعذروني يا سادة يا كرام, انا اعتقد ان اغلبية ظواهر العنف التي نشهدها لم تصدُر من لعبة كرة القدم وانما من أزمات اقتصادية واجتماعية واخلاقية متأصّلة في المجتمع منذ زمن, وما "المناوشات" التي تحصل في الملاعب إلا عاملٌ كاشفٌ لها. العنف موجود في كل مكان- في الشوارع وفي المدارس وفي البيوت وفي الاعلام وشبكة الانترنت والافلام السينمائية وغيرها وغيرها. ان القاء تهمة العنف على كرة القدم ليس منصفا فحسب بل هو هروب من مواجهة الحقيقة. انا أومن بأن من يمارس لعبة كرة القدم يمرُّ عملية تربوية وتعليمية من الدرجة الاولى وخاصة وسط اليافعين من ابنائنا, واذا قمنا بالمقارنة بين ملعب كرة القدم وملعب "الحياة" لوصلنا الى الكثير من اوجه الشبه بينهما. في لعبة كرة القدم توجد وظائف محددة كلاعبي الدفاع والوسط والهجوم وحارس المرمى والظهير الايمن والايسر, وهنالك مبنى تنظيمي واضح ومُلزم كنا نتمنى ان يتواجد في مؤسساتنا وسلطاتنا المحلية فهنالك الكابتن والمدرب والمدير العام والرئيس وغيرها. الالتزام بالعمل في نطاق الوظيفة هو امر حتمي ومن يتجاهله لن يُفلح في الصمود ويخسر اللعبة لمنافسيه ومن الجائز ان يخسر مرتبته في الدوري. تضع الاغلبية الساحقة لفرق كرة القدم استراتيجية تحدد بها الاهداف التي تبغي تحقيقها في السنة القادمة كالارتقاء الى الدوري الممتاز او احتلال مرتبة مرموقة بين الاربعة الاوائل, او تدريب لاعبين ناشئين "وبيعهم" للفرق الغنية. ومن ثمّ تعمل تلك الفرق على توفير المصادر الاقتصادية والمهنية والبشرية المطلوبة لذلك. ان تعرّف اللاعبين على اهمية التخطيط الاستراتيجي للمدى البعيد وبناء خطة عمل لانجازه هو عملية تربوية هامة. في لعبة كرة القدم يتعرّف اللاعبون على مصطلح "التنافس" وما يتطلبه من تدرّب ولياقة بدنية والتزام بخطة اللعب التي تُرسمُ من قبل المدرّب, كما ان التنافس يتطلب اليقظة والتركيز والاستماته من اجل الفوز باللعبة. ان شئنا ام ابينا تجنيد كل هذه الطاقات من اجل "الفوز بالمعركة" هو عملية تربوية من الدرجة الاولى يتعلم من خلالها المشاركون معنى التضحية والحفاظ على روح الجماعة ويدركون اهمية توحيد القوى ودمج المهارات من اجل احراز الفوز المنشود ويصلون الى نتيجة بأنه لا بديل للعمل الجدي والشاق, وان من جدّ وجد ومن زرع حصد, وان الارتقاء في سلم المراتب لا يتم عن طريق "الواسطة" كما نعهد في مؤسساتنا. في لعبة كرة القدم لا يستطيع المدرّب ان يميّز بين لاعب ولاعب حسب انتمائه القومي او الطائفي او حسب لون بشرته ولو فعل ذلك لتدهورت احواله. في اغلب الاحيان تعتمد تركيبة المدرّب على اسس مهنية وموضوعية ولذا فاننا نشاهد ان هنالك لاعبون عرب في المنتخب القومي للدولة, وهذا بخلاف ما نشهده في "الحياة العادية" من تمييز واجحاف قي حقنا على المستوى القطري. حبّذا ايضا لو يتعلّم رؤسائنا في السلطات المحلية اهمية الحفاظ على الموضوعية والاصول المهنية في قرارتهم واختياراتهم. اسمحوا لي ان ابالغ واقول ان الاستبسال الذي يقوم به اللاعبون من اجل الدفاع عن مرماهم يُذكّرني بالجنود الذين يدافعون عن بيتهم وكرامتهم. أما الحنكة والبراعة والتنسيق والتزامن في تمرير الكرة التي يستعملها لاعبو الهجوم من اجل تحقيق الاهداف ما هي الا "ادوات عمل" وخصائص هامّة حبّذا لو كانت من نصيب كل فئات المجتمع. كم من ابناء شعبنا تنازلوا عن قضيتهم وكم منهم عزفوا عن تحقيق الاهداف وتركوا الملعب لغيرهم ليصول ويجول! في ملاعب كرة القدم تغلب الروح الجماعية على الروح الفردية ومن يتصرّف بأنانية يتلقى توبيخا من زملائه ومن مدرّبه ومن الاعلام الذي يغطي الحدث ويتعرض احيانا لتنديد عارم من قبل جمهور المؤيدين, وان صمّم احدهم على التصرف بأنانية فسيجد نفسه جالسا على دكة الاحتياط ولن يشفع له احد. تخيّلوا انه في الحياة العادية يوجد هذا النظام من العقاب والثواب الفوري. يتعلم اللاعبون في نطاق لعبهم الالتزام بالخطوط الحمراء وعدم دخول المناطق الممنوعة وعدم التربّص خلف الخصم, وعندما يقوم احدهم بايذاء لاعب آخر فيتلقى انذارأ او يُبعد من اللعبة. هنالك الكثير من الصفات الحميدة الاخرى التي يكتسبها لاعبو كرة القدم خلال ممارستهم لهذه الرياضة كالنظام والالتزام بالوقت والالتزام بحمية غذائية بالاضافة الى اللياقة البدنية والتحلي بالروح الرياضية. هذه هي نفس الروح الرياضية الذي نطلب ان يتحلى بها افراد المجتمع عندما يخسروا المعركة لمنافسيهم. كم كنا نتمنى ان يتمتع مرشحونا في انتخابات البرلمان والانتخابات البلدية في بلداننا العربية بالروح الرياضية ويتعايشوا مع الخسارة بشكل حضاري كما هي في ملاعب كرة القدم. بإمكان القراء ارسال ردود فعلهم الى البريد الالكتروني:[email protected]