بقلم مصطفى الغزاوي رحيل الفارس النبيل خالد عبدالناصر عن دنيانا إلى رحاب ربه، استدعى ذكريات بدأت معه منذ 28 سبتمبر 1971 حين جاء مدعوا إلى "لقاء ناصر الفكري" الأول بجامعة عين شمس. كان بيننا حوار أحببت فيه ذلك المتواضع والذي لا يضع قدمه في غير مكان قرره هو. كانت كلماته ببساطتها تحمل يقين انحياز لوطن وأمة. كان يمكنه أن يعيش على إرث أبيه، ولكنه لم يفعل رغم أن الكثيرين ممن مارسوا السياسة تحت اسم الناصرية كانوا يحيون على الإرث دون الإضافة الفكرية أو الحركية، وتجمدت العروق والشرايين في الأجساد، قال يوما "أمام عيني انديرا غاندي ووليد جنبلاط... ولكنها مصر.."، أدرك أنه ليس كافيا أن تكون مجرد ابن لزعيم كي يكون لك دور منتج لقضية، ولن يخدم قضيتك أنك الابن ولكن يخدم قضيتك ما تستطيع فعله. ويوما كان المتحاورون معه، وعددهم لم يتجاوز الخمسة، قد أضفوا بالتحليل السياسي والجدل سواد العجز ويتساءلون ما العمل؟ وإذا به يجيب "في حلبة سباق السيارات عندما تجد حادثة إلى جوارك، اضغط على "دواسة" البنزين لتزيد السرعة فالآخرون رفعوا أقدامهم عن البنزين" وصمت، وصارت هذه المقولة التكتيكية حجتي أمام أي إدعاء بالعجز. واقعة أخرى جرت قبل وقائع "ثورة مصر" تؤكد أنه لا يمنعه أي شيء حتى الفداء بالروح، وكانت الواقعة أيضا في أول شهر سبتمبر 1981، واستقر في اليقين أنه لم يعد هناك من سبيل لاستعادة مصر إلا بعمل غير نمطي، لم يرتعش ولم يتردد، شارك بالكثير، من حيث الأدوات والمعلومات، ولكن أُحبط الأمر لأسباب في البشر ولم يكد يمضي شهر حتى تمت واقعة المنصة واغتيال السادات تعبيرا عن إرادة أمة وليس جنوح فرد، وكأنه مكافأة من السماء لحلم فارس نبيل، أعد له ولم يتمكن منه. يوم عاد من يوغسلافيا منفاه الاختياري بعد كشف تنظيم ثورة مصر، علمت مساء الخميس من الصحف، ومبكرا في اليوم التالي كنت أطرق باب منزل صديق مشترك، الذي عقب على ما رويته بقوله أمامنا طريق واحد، أن نذهب إلى بيته فورا، وهو ما فعلناه، وخرجنا لصلاة الجمعة معا وخلفه حرس عين لحمايته من مخاطر صهيونية متوقعه، وما أن انتهت الصلاة إذا به ينفرد بالحرس جانبا، وعاد إلينا ليقول: كنت أطمئن علي الرجالة جوه (أي عناصر تنظيم ثورة مصر) لنوفر لهم احتياجاتهم. تجسد في شخص خالد عبدالناصر ميزة نسبيه أنه ابن جمال عبدالناصر، وهي تكسبه إمكانية أن يكون مركز ثقل، وتخدمه إن أراد تحقيق فرصة الظهور القيادي، ولكنه تجاوزها ليصنع بذاته ميزة تنافسيه تفردت بطبيعة مواقفه المتنامية وفي اتجاهات عديدة، بل كان يأبى أن يطرح نفسه قيادة لتيار سياسي يتخذ من صورة والده وشعاراته الفكرية من دون ترجمتها إلى مهام يلتزمون بها، مبررا للوجود. اتخذ خالد لنفسه موقعا في الظل، من غير تقاعس عن أي أداء يدعم هذا التيار، ودون أن يكون هذا جل موقفه، استكشف حدود القدرة وعندما وجد أن يقينه يفرض أدوارا أخرى بعيدة عن إمكانات من تعامل معهم، اختار من يملكون القدرة من خارج هذا التيار، وتجسد هذا الأمر في تنظيم "ثورة مصر". وكأن السماء تكافئه ورفاقه في ثورة مصر، فتسحب إسرائيل سفيرها بعد أن استباح المصريون سفارتها، قبل رحيله إلى رحاب ربه بستة أيام. وقائع كثيرة إن عددناها لن يتسع لها المقال، ولكنها جميعا تقول من كان هذا الرجل. وأن ما ورثه عن جمال عبدالناصر هو القدرة على قراءة احتياج الوطن رغم ضجيج بورصة الأوراق السياسية، وأن يلتزم بما يمليه الاحتياج الوطني أيا ما كان حتى حمل السلاح، ولكنه أيضاً كان محددا أن الرصاص يوجه في صدر العدو، وكشف سلوك راق لتنظيم "ثورة مصر" هذا الأمر عندما تزامن عام 1986 أن أطلقت رصاصات على سيارة رئيس تحرير مجلة "المصور" المصرية، وكان وقتها نشاط التنظيم عالي الأداء في مواجهة الصهاينة، أرسل التنظيم باقة ورد إلى رئيس التحرير وهنأه بسلامته، وكان تصرفا مختلفا وجديدا على مصر. مثل خالد عبدالناصر تبكيه عين الرفيق والصديق ويزداد الألم عندما تكون قد اكتشفت الصدق في العمل والإرادة. هو في دار الحق، ولا نملك غير أن ندعوا له بالرحمة، ولكني على ثقة مما مر به من مواقف وما اتخذه من أفعال أنه كان يملك جسارة وانتماء للوطن ويدرك من هو العدو، ويعي معنى الشعب وينتمي إلى فقراءه كما كان أبوه. كتب إلى الصديق المشترك بعد تبادل التعزية قائلا: هل يمكن مقارنة دور ووعي من أسهم لدعم حركة شعبية وقياداتها في الجامعات والمواقع الشعبية وكذلك ثورة مصر دون النظر لموقع أو مكسب سياسي، وبين هؤلاء الذين لم يستوعبوا درس الثورة الأبدي ومازالوا يتصارعون لتصفية من يخالفهم الرأي -على مستوى الوطن- أو على زعامة تكوينات سياسية يعتبرها الشعب الآن "تحت التاريخ"? وأجبته بالقطع الإجابة "لا". رحل خالد إلى رحاب ربه في لحظة يسود مصر الوطن هدوء مريب وحالة من الترقب تصل إلى حد التربص، بديلا عن وعي بالمرحلة ومسؤولياتها، تملأ الأفق بأسئلة حول إلى أين المسير؟، حتى أن هتافات انطلقت في موكب الجنازة بدت وكأنها خارج سياق قداسة الموت، وحالة الوطن، فالأوطان لا تتغير بالهتاف، ولكن الأوطان تتغير بتحقيق المهام أيا كان الثمن، وتتغير الأوطان بالوعي بحقائق القوة فوق الأرض والقدرة على تغيير ميزان القوى لصالح عملية التغيير. لم تكن قيمة خالد أنه ابن جمال عبدالناصر، ولا إدعاؤه أنه ناصري، ولكن قيمته كانت في أدائه وفي التزامه بممارسة مهام الاستقلال الوطني. والغريب أن البعض ممن اكتسبوا قيمتهم السياسية لأنهم أعلنوا الالتزام بالناصرية، تخلوا عنها على الباب المخملي للترشح للرئاسة بعد الثورة وتركوا مهام التغيير جانبا، واشتبكوا مع مهام الوجاهة السياسية دون إنجاز حقيقي لصالح القوى الاجتماعية وأولها السعي لتنظيمها في أطر تعبر عنها. الهدوء المريب الذي يحتوي مصر تلوح في أفقه أسئلة عديدة، تجهد الضمير المصري وهو يرى الفترة الانتقالية تنقضي دون أن يملك تفسيرا لغياب دلالات التغيير الاجتماعي، ولعله أصابته نشوة الإطاحة برأس النظام فأغرقته الرمال المتحركة لغياب التنظيم. هل تغير ميزان القوى داخل المجتمع لصالح الشعب؟ هل فتح طريق أمام القوى الاجتماعية في المجتمع لتعبر عن نفسها؟ هل نزعت أنياب النظام السابق داخل مؤسسات الدولة وأجهزة الأمن؟ هل استردت ثروة الوطن التي حولها النظام السابق إلى ثروات فردية للموالين له؟. من الذي استبدل الشرعية الثورية بوجوب تسليم السلطة إلى حكومة مدنية (غير عسكرية) لا تمثل غير ذاتها وهي غايتها، سواء تشكلت أحزابها قبل الثورة أو بعدها؟، ومن استبدل الخصومة مع النظام السابق إلى خصومة مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة؟ وكأننا أمام مغامرة بالوطن كله وبالثورة الشعبية، مغامرة "غير عسكرية" في حالة مصر، رغم أن كل المغامرات السابقة في التاريخ كانت "عسكرية"؟ ثم هل حياد المجلس الأعلى مكسبا أم أن عدم انحيازه هو الخسارة؟ ومن الذي يسعى لإحداث فجوة تصديق بين المجلس والثورة؟ ولمصلحة من؟. هل كل الطنين والجعجعة بلا طحن من الأحزاب والنخب وحتى المرشحون الحالمون بالرئاسة تحمل في طياتها التزاما موضوعيا ومسؤولا تجاه الثورة؟ هل هناك حزب أو فصيل أو أحد من النخبة قدم مصلحة الوطن، على مصلحة آنية لما ينتمي إليه؟ هل الغاية العليا للثورة تتمثل في مجرد تداول السلطة؟ أليس هذا مؤشرا على غياب الثورة بمفهومها العلمي في كونها علم تغيير المجتمع؟ ثم ما مشروعية مطالبتهم بانتخابات نيابيه بالقائمة النسبية فقط؟ وهل استقرت الحياة الحزبية وتكافأت الفرص، أم هو جشع من لا يستحق تحت إدعاء مقاومة تسلل عناصر النظام السابق وحزبه؟ أليس من الأجدى استكمال التطهير فبل الانتخابات؟ هل الهتاف الإخواني "مصر وتركيا عاوزنها خلافة إسلامية"، يعبر عن الوطنية المصرية؟ هل استبدلنا عجز الاتفاق على قيادة واحدة لمصر الثورة، بالانحياز إلى قيادة تركية تتحرك وفق مصالحها الوطنية والإقليمية؟ إن ذلك كله يضعنا أمام السؤال الأم إن جاز التعبير، وهو هل الثورة كائن مسؤول بذاته، أم أنها تعبير لفظي عن حالة ومجموعة من الشروط الموضوعية؟ الثورة هي ثلاثة أبعاد تجتمع معا، شعب وقيادة وبرنامج عمل. الشعب ليس تراكما مبنيا للمجهول، ولكنه كان تلك السبيكة الرائعة والعابرة لحالة العجز السياسي والحزبي التي كانت سائدة قبل يناير، وأكثر من هذا فإن هذه السبيكة الشعبية أوجدت حلمها وذهبت إليه رغم أنها لم تر المهام التي يفرضها نجاحها في إسقاط السلطة وأولها "تولي السلطة بديلا عما كان لصالح مهام المرحلة الانتقالية"، وكانت المهمة الأولى الواجبة في المرحلة الانتقالية هي إعادة تكوين السبيكة على أساس اجتماعي معبر عن القوى الاجتماعية، وهو أيضاً لم يتحقق لأن تلك القوى الاجتماعية كانت مفككة من أثر ممارسات الفترة السابقة وغياب المؤسسات المعبرة عنها والتي كان يمكنها أن تنتج قيادات لها. والقيادة ليست أفرادا دون مؤسسة تنظيمية، وبرنامج العمل ليس مجرد شعار "خبز حرية عدالة اجتماعية" الذي أخذناه كغاية عليا للثورة، لأنه لم تتم ترجمته إلى مجموعة من المهام لبناء دولة الثورة. انقضت الفترة الانتقالية واصلة إلى انتخابات عزلت عنها القوى الشعبية التي خاضت معركة الإطاحة بالنظام، ورغم جهد بذله أهل القانون الدستوري ما كانت هناك فسحة للمبادئ الدستورية المؤسسة للدولة والتي يتوقع الإعلان عنها قبل الانتخابات، إلا أن أهل التحرير أخذتهم جل القضايا الثانوية التي واجهوها منفردين دون تنظيم ولا مشاركة من أحزاب اكتفت بحلم الوصول إلى البرلمان أو كرسي الرئاسة، فلم تصل حركتهم إلى إنجاز يقرب قوى المجتمع في كيانات معبرة عنها، وزادت الفجوة بين أهل التحرير وبين أصحاب المصلحة من الشعب. رحيل الفارس وسط الهدوء المملوء بعلامات الاستفهام كحبات عاصفة رملية تقتل الحياة يستدعي إدراك المهمة الملحة على قوى المجتمع الحقيقية أن تبحث عن "فدائي الثورة" الذين يرون العمل العام نوعا من التضحية في وطن مثل مصر يحتاج إلى رجال بأحجام الحوادث والوعي بحق كل الشعب، وليس البعض منه، فالقادم إن لم يحمل في طياته إجابة عن الأسئلة الحائرة، فهو يفتح الباب لعنف غير مسبوق حتى وإن طال بنا الزمن.