هذه السطور خواطر في الذكرى الأولى لرحيل المفكر الجزائري الفرنسي المسلم محمد أركون – 14 سبتمبر 2010 – وهي ليست محاولة لتناول إنتاجه بالدراسة، باعتبار أن المحاولات النقدية لفكره – رصينة أم متهافتة – عديدة ويمكن للقارئ المهتم الرجوع إليها سواء في كتب مختلفة أو حتى دراسات ومقالات متفرقة يمكن الوصول إلى الكثير منها عبر الإنترنت. ومن هذه الدراسات على سبيل المثال، كتاب «نقد العقل الإسلامي» لمختار الفجاري، وكتاب «العقل الإسلامي أمام تراث عقل الأنوار في الغرب» للكاتب الهولندي رون هاليبر، ودراسة «اللغة الدينية والبحث عن ألسنية جديدة .. قراءة في فكر محمد أركون» للراحل نصر أبو زيد، ودراسة «أزمة التنوير في المشروع الثقافي العربي» للكاتب الموريتاني السيد ولد أباه. ما يلفت النظر في مسار أركون الفكري – اختلفنا أو اتفقنا معه – دأبه في توصيل رسالته وإيمانه الكبير بهذه المهمة والتي نذر لها حياته، وأخلص لها حتى بلور ما أسماه مشروع «نقد العقل الإسلامي». وقد كانت مشكلته في ذلك الصدد ما يراه أنه يناضل على جبهتين.. جبهة الغرب وجبهة المسلمين، تتحفظان على قبول مشروعه رغم حقيقة أن الأولى فتحت له الباب واسعا أمام هذا المشروع باعتبار ما قد يساهم به من تراجع لدور الدين في حياة العرب والمسلمين الذي كان أركون يراه يلعب في المجال العربي الإسلامي دورا تعطيليا! . لقد كان الرفض واسعا لأركون في العالم الإسلامي حتى أن البعض اتهمه بالكفر، نظرا لما رأوه من شطط طروحات مشروعه ، وتركيزه على تتبع .. المساحات التي بقيت بعيدة عن مجال النقد والتفكير أو ما يدخل فيما يصفه بدائرة «اللا مفكر فيه» وعلى رأسها القرآن والوحي، وهو ما رآه البعض محاولة ل «التحرر من سلطة النص» فضلا عن امتداد نقده لكافة مجالات التراث الإسلامي على نحو لم يسلم منه شئ من النقد! كما أنه تم لفظ أركون في الغرب على خلفية بعض مواقفه وأشهرها موقفه من سلمان رشدي والذي بدأ معه أركون وكأنه يستخدم ليس إلا كأداة ، ما يؤكده المرارة التي عبر عنها بلسانه والتي تشير إليها كلماته « الفرنسي ذو الأصل الأجنبي مطالب دائمًا بتقديم أمارات الولاء والطاعة والعرفان بالجميل، باختصار: إنه مشبوه باستمرار، وبخاصة إذا كان من أصل مسلم» ورغم ذلك فقد انتشر مشروع أركون الفكري من باريس على مستوى قطاع معين من النخبة المثقفة العربية بفضل عدد من دور النشر ذات التوجهات العلمانية التي تتخذ من الدين موقفا سلبيا، وبفضل مترجمه هاشم صالح الذي نجح في فرض حالة لم يعد فيها من الممكن ذكر اسم أركون دون التطرق له. ورغم ذلك فقد كان الأخير حتى شهور قليلة مضت قبل رحيله يصرخ في مختلف حواراته الصحفية والتليفزيونية والعامة مع الجمهور بأنه حزين على أنه لم يصل إلى القارئ العربي. ولعله من المحزن، في كل الأحوال وفيما يشير إلى تردي الحال الثقافي العربي، أن يصل حضور أمسية لأركون في مسقط بعمان مائة شخص فيما يحضر حفل للمغني عبد الله بالخير في نفس الليلة أكثر من 100 ألف شخص!. كان طموح أركون أن يقدم نفسه على أنه ابن رشد العصر في العالم الإسلامي، أو جان جاك روسو الغرب، على ما يذكر رون هاليبر، ومع ذلك فإن المرء لا يكاد يشعر بأي حيرة في وصفه بأنه «مستشرق» مسلم رغم نقده العنيف للاستشراق، أو عالم إسلاميات وليس مفكراً إسلامياً.. باعتبار أن فكره لم يكن ينطلق من شعور بالانتماء إلى هذا الفكر وإنما من دراسته. ولعل هذا المعنى الكامن في قلب كتابات أركون هو الذي نفر الكثيرين من القراء العرب من مشروعه!. وكان أحد الأسباب الأساسية في عدم وصول أركون إليهم رغم اعترافه بممارسة «التقية» في تقديم مشروعه الفكري للتخفيف من وقع هذا المشروع على عقل ووجدان المسلم، وهو ما أشاره إليه نصر أبو زيد ، والذي يتداخل مشروعه الفكري مع مشروع أركون ، في كتابه «الخطاب والتأويل»! وذلك على عكس الجابري في مشروعه ل «نقد العقل العربي» والذي حاول الاقتراب خلاله بقدر أكبر من العقلية العربية في تعاملها مع التراث والمقدس. وبغض النظر عن صحة رؤيته بأنه لم ينل حظه من التقدير، فإن ما يبقى من ذكرى أركون، بغض النظر عن أية مثالب، ضرورة تسييد روحه البحثية والدراسية والتي نظن أننا نفتقد لمثلها على مستوى عالمنا العربي!