مصر في حالة حصار، تلتقي فيها رغبة الانتقام لدى القوى المتطرفة في الداخل سواء جماعة الاخوان المحظورة، أو التنظيمات الارهابية المتطرفة، أو الدول المتربصة في الخارج خاصة أمريكاوبريطانيا وألمانيا وتركيا وقطر. هذا هو ملخص ازمة الطائرة الروسية المنكوبة وهو ما عبر عنه بوضوح القيادي الاخواني الهارب للخارج جمال حشمت عبر تويتر قائلا: «بعد زيارة نيويوركولندن وحادثة الطائرة الروسية وسحب السياح والمدنيين الانجليز والروس بدأ العد التنازلي للتدخل الدولي والعسكري في سيناء ومنطقة القناة». بالتأكيد تصورات حشمت وجماعة الاخوان المحظورة بحكم القانون تجاوزت حدود المنطق، وعمليا يستحيل تحقيقها لمخالفتها قواعد القانون الدولي، ولأنها تشكل دعوة صريحة لانتهاك سيادة دولة هي الآن عضو بمجلس الامن، المسئول عن حماية الأمن والسلم الدوليين، ولكونها تتعارض مع مبادئ وأهداف الأممالمتحدة التي تحكم علاقات الدول بعضها ببعض. لكن الشواهد على أرض الواقع في اعقاب حادثة الطائرة الروسية، تؤكد تلاقي ارادة الطرفين على الإضرار بمصالح الدولة المصرية، وزعزعة استقرارها وتهديد امنها القومي، وضرب اقتصادها من خلال ضرب السياحة. فمنذ اللحظة الاولى استبقت المواقف الامريكية والاوروبية، الاحداث وأكدت وجود عمل ارهابي وراء تفجير الطائرة، وسارعت الي سحب مواطنيها من مصر، وحذرتهم من التوجه اليها باعتبارها منطقة غير آمنة. بينما سارع التنظيم الدولي للجماعة وفقاً لمصادر اعلامية، الى عقد اجتماعات مكثفة بتركيا تردد انها تمت بحضور مسئولين بالاستخبارات التركية وقيادات بحزب العدالة والتنمية، الذي بات بحكم الانتخابات النيابية التركية التي جرت مؤخراً الحزب الحاكم منفرداً، والتي انتهت الى ضرورة استثمار ازمة الطائرة الروسية في التأكيد على انفلات الاوضاع الأمنية في مصر خاصة في سيناء تمهيداً للدعوة للتدخل الدولي، ومواصلة الضغوط الاعلامية دولياً لضرب موسم السياحة وفرص الاستثمار في مصر. الطائرة الروسية التي سقطت بعد اقلاعها من مطار شرم الشيخ بحوالي 23 دقيقة، كانت في طريقها الى مدينة سانت بطرسبورغ الروسية، وعلى متنها 217 راكبا و7 من أفراد الطاقم، لقوا مصرعهم جميعاً وهى من طراز ايرباص 321، ودخلت الخدمة منذ أكثر من 19 عاما، وهى ملك لشركة «كوجاليم افيا» الروسية والمعروفة تجاريا باسم متروجيت. وفور وقوع الحادث شكل وزير الطيران المصري حسام كمال لجنة خماسية فنية، برئاسة الطيار ايمن المقدم، ضمت 58 عضوا ممثلين لمصر، وروسيا باعتبارها الدولة المالكة للطائرة والمنتمي اليها الضحايا، وألمانيا باعتبارها الدولة المصنعة للطائرة، وفرنسا باعتبارها دولة التصميم الخاص للطائرة، وايرلندا المسجلة فيها الطائرة بالاضافة الي ممثلين لشركة ايرباص. وعقد ايمن المقدم رئيس اللجنة الاحد الماضي، مؤتمرا صحفيا عالميا اكد فيه انه يتم النظر الى كافة السيناريوهات المحتملة لمعرفة أسباب الحادث والوصول الى نتيجة نهائية، مشيراً الى أنه فيما يتعلق بعمل اللجنة «لم نتمكن حتي هذه اللحظة من جمع كافة المعلومات والبيانات اللازمة لاعلان اي استنتاجات بشأن الحادث ولكن تم سماع صوت غير معروف قبل انتهاء تسجيلات الطائرة الروسية» مؤكداً أن الطائرة تفككت في الهواء قبل سقوطها وانه لا داعي للاستنتاجات قبل نهاية التحقيق. حادث الطائرة الروسية الايرباص 321 لم يكن الاول من نوعه فهناك عشرات الحوادث الشهرية لهذا النوع تحديداً، ولأنواع متعددة اخرى من الطائرات لأسباب عديدة وعادة ما تستغرق التحقيقات شهورا طويلة للوصول الى الاسباب اذا لم تكن هناك اسباب واضحة منذ البداية. لكن المريب في هذا الحادث تحديداً هو رد الفعل الاوروبي والامريكي، حيث سارع الرئيس الامريكي اوباما فور الحادث الى الحديث عن احتمال ان يكون الحادث ناجماً عن قنبلة وضعت على متن الطائرة، مستنداً الى تقارير المخابرات الامريكية. وقال مسئول امريكي في تصريح ل «سي. ان. ان» ان نسبة احتمال أن الطائرة تحطمت بسبب قنبلة يبلغ 99.9٪ كما نقلت «سي. ان. ان» عن مسئول امريكي رفض ذكر اسمه ان قمراً اصطناعياً عسكرياً امريكيا رصد وميضاً حرارياً صادر عن الطائرة عندما وقعت الكارثة وقال «ان هذا يوحي بأن حدثاً كارثياً قد يكون انفجار قنبلة حصل في الجو». واشارت تقارير اعلامية امريكية طبقاً لما نشرته «بي بي سي»، الى أن المخابرات الامريكية رصدت اتصالات بين قادة في تنظيم داعش واتباعهم في سيناء قبل تحطم الطائرة الروسية مشيرة الى أن محطة «ان بي سي» التليفزيونية نقلت عن مسئول قوله ان المسلحين كانوا يتباهون بطريقة اسقاط الطائرة. وهو ما يتفق مع الرواية البريطانية من أن اجهزة استخبارات بريطانية وامريكية رصدت محادثات بين مسلحين تابعين لتنظيم الدولة الاسلامية في سيناء تشير الى وضع قنبلة على متن الطائرة المنكوبة. والملاحظ أنه لم يقدم دليل واحد الى الحكومة المصرية المعنية في المقام الاول بالحادث حول هذه الفرضية ولا الى اللجنة الفنية المعنية بالتحقيق في الحادث والمكونة من ممثلي خمس دول وممثلين عن شركة ايرباص. بل وسارعت شركات الطيران الالمانية وعلى رأسها لوفتهانزا وكذلك الفرنسية وعلى رأسها ايرفرانس الى الاعلان عن تعليق رحلاتها لمصر كما تعاملت بريطانيا في خطوة غير لائقة بروتوكولياً بالاعلان عن اجلاء 20 الف بريطاني من شرم الشيخ فور وصول الرئيس السيسي الى العاصمة لندن للالتقاء برئيس الوزراء البريطاني كاميرون. ووجهت كل من امريكاوبريطانيا وألمانيا وكوريا الجنوبية وفرنسا وبلجيكا الدعوة الى رعاياها بمغادرة مصر وتحذير مواطنيها من التوجه الى مصر لاعتبارات أمنية. وأجري رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون في الخامس من نوفمبر اتصالا تليفونيا قيل انه اطلعه خلاله على اسباب سقوط الطائرة وهو الامر الذي ادعى الى احداث تغيير جذري في الموقف الروسي الذي ظل متزنا وموضوعيا ومتسقاً مع الموقف المصري حتى هذه المكالمة، حيث أعلن الرئيس الروسي بوتين سحب السياح الروس والذين يصل عددهم الى 79 ألفا من مصر، بالاضافة لاصداره مرسوما بتعليق كافة الرحلات الجوية بين روسيا ومصر بناء على توصية من هيئة الأمن القومي الفيدرالية في اعقاب اجتماع اللجنة الروسية القومية لمكافحة الارهاب. الدلائل تشير الى أن الرئيس الروسي بوتين تعرض لضغوط شديدة لاجباره على اتخاذ هذه الخطوة والتي لعب فيها الاعلام البريطاني خاصة والغربي عامة دوراً كبيراً مما اثار الرأي العام الروسي فاتخذ قراره لامتصاص هذا الغضب الداخلي حيث يتردد أيضاً أن المخابرات البريطانية قدمت لنظيرتها الروسية تأكيدات على وجود مظاهر للتراخي في مطاري الغردقةوشرم الشيخ وهما المدينتان المفضلتان لدى السياح الروس. وكانت الصحف البريطانية الشهيرة قد شنت حملة للتشهير بمصر تحت ادعاءات وجود فوضي وعدم تأمين كاف بمطار شرم الشيخ حيث اشارت صحيفة «الاندبندنت» الى أن رجال الأمن يتقاضون رشاوى لتسهيل مرور السياح دون تفتيش بينما قالت صحيفة «ذا صن» ان مطار شرم الشيخ يعاني من الفوضى. وكانت القصة الاكثر طرافة وعبثا واثارت سخرية العالم هو مانشرته صحيفة «ديلي ميل» عن أن طائرة تابعة لخطوط طوسون الجوية البريطانية، تمكنت من النجاة من هجوم صاروخي فوق شرم الشيخ يوم 23 أغسطس وعلى متنها 189 راكبا، الا أن قائد الطائرة تمكن من تفاديه. كذلك تعمدت وكالة «اسوشيتدبرس» في تقاريرها لمصادر مجهولة تبني وجهة نظر الاستخبارات الامريكية والبريطانية وبثت وكالة «رويترز» تقريرا ادعت انه عضو بفريق التحقيق باللجنة الخماسية من أن اعضاء اللجنة متأكدون بنسبة 90٪ من أن الانفجار الذي سمع في تسجيلات الصندوق الاسود كان ناتجا عن قنبلة، وذلك بالمخالفة لما جاء بالبيان الرسمي للجنة والذي أعلنه رئيسها الطيار أيمن المقدم أمس الأول. لذلك كان من الطبيعي أن يعبر وزير الخارجية سامح شكري عن استنكار مصر لهذه القرارات الخاصة بحظر السفر، وأن يشير الى أن العديد من حوادث الطيران وقعت في مختلف بلدان العالم ولم يتخذ فيها أي اجراء مثلما حدث مع مصر، وأن يؤكد أن ما حدث ممن تعتبرهم مصر شركائها يفرغ هذه الشراكة وعلاقة التعاون من مضمونها وأن هذه القرارات المتسرعة تشكل اضراراً بالاقتصاد المصري معبراً عن اسفه لأن مصر كانت تتطلع الى التنسيق معها في هذه الحادثة بعيداً عن المصالح الذاتية، معتبراً أنه كان يفترض ابلاغ مصر بأية معلومات استخباراتية بشأن الحادث للمساعدة في الوصول لاسباب الحادث بدلاً من اطلاقها عبر وسائل الاعلام. الغضب الرسمي والشعبي المصري من الموقف الامريكي والاوروبي له مبرره، لأن رد الفعل ليس له نظير من قبل، ويؤكد سوء النوايا الامريكية والاوروبية تجاه مصر، خاصة في اعقاب ثورة 30 يونية ويبدو بوضوح كأنه نوع من العقاب لمصر، من خلال فرض حصار اقتصادي يقوم على ضرب السياحة باعتبارها أحد أهم مصادر دخل العملة الأجنبية، وما يمثله ذلك من تأثيرات سلبية ضارة للغاية على الاقتصاد المصري واحتياطي العملة وخفض قيمة الجنيه المصري وهو العملة الوطنية امام العملات الاجنبية خاصة الدولار والاسترليني واليورو. كما يهدف الى ارهاب المستثمرين من خلال الايحاء بأن مصر لم تعد دولة آمنة، وبالتالي اعاقة النمو الاقتصادي وعرقلة المشاريع والاستثمارات الاجنبية في مختلف المجالات، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها مصر منذ ثورة 25 يناير. لذلك يبقي التساؤل مطروحا حول حصان طروادة الذي يستخدمه الامريكان وحلفاؤهم هل يستحق حادث الطائرة الروسية كل هذه المواقف المتشددة؟ التي تضر في المقام الاول الشعب قبل الحكومة، هل يعاقب الامريكان الشعب المصري على ثورته في 30 يونية؟ وهل ضرب الاقتصاد المصري ومصر تواجه حرباً شرسة ضد الارهاب دفاعاً ونيابة عن العالم يصب في مصلحة الحرب الدولية ضد الارهاب؟ بالتأكيد الاجابة لا.