تكشف فعاليات الأسبوع الماضي والتي تواكبت مع ذكرى وفاة أديب مصر العالمي نجيب محفوظ عن أن مصر لم تحتف بأحد من أبنائها كما فعلت مع الفائز بنوبل، وهو الأمر الذي قد يعكس تأثير هذه النقطة الأخيرة، حيث كانت نوبل أحد الأسباب التي غرست محفوظ في قلب الاهتمام العام رغم حقيقة أن إبداعه كان يرفعه لمنزلة أكبر مما كان يحظى بها. وقد يكون ذلك أحد أسباب أن محفوظ ربما في أيامه الأخيرة ضجر من نوبل التي اصبح أسمه مرتبطا بها وهو ما يبدو في حواراته التي سنشير إليها في هذا الموضوع، على نحو يذكرنا بضجر أديبنا الراحل يحيي حقي والذي من فرط شهرة رواية قنديل أم هاشم بشكل يتجاوز شهرته هو ذاتيا أصبح يشعر بالضجر منها. وقد عبر الروائي الكبير يوسف القعيد بشكل رائع عن هذه الزاوية حين راح يشير إلى ما وصفه بسعار الكتب عن نجيب محفوظ بعد نوبل قائلا إن كل من صافح نجيب محفوظ أو التقط معه صورة أو جلس في حضرته ولو عشر دقائق أصدر كتابا عنه، فيما يكشف حقيقة تأثير نوبل في مسيرة محفوظ. وبهذه المناسبة ذات الطابع الاحتفائي صدرت الأسبوع الماضي ثلاثة كتب عن محفوظ تضاف إلى سلسلة الكتب المختلفة التي تتناول سيرة حياته وأدبه وأثره في السينما، الأمر الذي يوحي لك بأن محفوظ معين لن ينضب وأن كل راغب في دراسته لن يصادف صعوبة في العثور على الجديد الذي يمكن أن يقدمه بشأنه. الكتاب الاول هو للقعيد بعنوان «نجيب محفوظ إن حكي.. ثرثرة محفوظية على النيل» وصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، والثاني للاديب محمد سلماوي تحت عنوان «حوارات نجيب محفوظ» وصدر عن مركز الأهرام للنشر وجرى إطلاقه في احتفالية أقيمت بمؤسسة الأهرام أمس الأول الخميس، وأما الثالث فهو «سينما نجيب محفوظ.. الفن الجماعي والإبداع المتفرد» للدكتور وليد سيف. وبشكل عام يمكن القول إن مادة الكتابين الأولين تكادان تتشابهان من حيث طبيعتهما ويعكسان العلاقة الخاصة التي كانت تربط أديبنا الراحل بمجموعة من مريديه من الأدباء من الجيل الذي يليه وبينهم بالطبع المؤلفان القعيد وسلماوي، بعيداً عن بعض اللغط الذي يحاول البعض إثارته حول سعي بعض المريدين الاستفادة من ارتباطهم بمحفوظ. فيما أن الكتاب الثالث مع كل التقدير للمادة التي يقدمها صاحبها إلا أنها قد تمثل تنويعات لمواد أخرى تم تقديمها من قبل بأشكال مختلفة حول مساهمة محفوظ وأعماله في السينما، دون أن يبخس ذلك الجهد الذي بذله المؤلف في سعيه لتقديم الجديد على صعيد عدد من القضايا. كتابا القعيد وسلماوي يمثلان إضافة مختلفة لما كتب من قبل عن محفوظ حيث يتضمنان آراءه والتي عبر عنها بحرية وعلى سجيته في الكثير من القضايا، إلى حد قد يدينه أو يثير المزيد من الانتقادات له على شاكلة موقفه من السلام مع إسرائيل مثلاً، وهو جانب وإن كان محفوظ قد قدمه بشكل أو بآخر في رواياته وعبر عنها من خلال شخصيات هذه الروايات إلا أنه يعبر في هذه الحوارات عن موقفه ليس من وراء ستار وإنما بشكل مباشر وعن قناعاته الشخصية. وتأتي أهمية كتاب القعيد من طبيعة علاقته ب«أديب نوبل» من منتصف التسعينيات وحتى رحيله في الثلاثين من أغسطس حيث ارتبط القعيد بمؤسس الرواية العربية نجيب محفوظ خلال هذه السنوات وأجرى معه حوارات حول كل ما كان يطرح في جلساتهما التي شهدها عدد كبير من أدباء العصر. وفي هذه الحوارات يكمل محفوظ ما كتبه في قصصه ورواياته الكثيرة. وعلى عكس من يسعون لتكوين ثروات من تأليف الكتب يقول محفوظ: كثير من الكتب لم نحصل على عائد لها والبعض الآخر حصلت على عائد لها لا يذكر. كان ما أنفقه على الأدب أكثر من الذي أحصل عليه في سنة كان يصدر لي كتاب أحصل على مكافأة عنه عشرة جنيهات ولكني اكتشفت أنني اشتريت كتباً في العام نفسه بحوالي أربعين جنيها. ومن الحوارات تكتشف جانباً آخر في محفوظ الذي يخاف من السفر حيث يحدثنا عن هذه العملية الصعبة إلي نفسه قائلا إن ذلك تم جبرا لا اختياراً، مشيراً إلى أن 3 قرارات تسببت في 3 سفريات: رحلة ليوغوسلافيا بقرار من عبدالناصر واليمن بقرار من المشير عامر ولندن بقرار لا يرد من الأطباء. ومن الكتاب تتابع قصة الاحتفال بأول عيد ميلاد لمحفوظ عندما بلغ الخمسين وكان ذلك في جريدة الأهرام بدعوة من الأستاذ محمد حسنين هيكل وقد حضرته كوكب الشرق أم كلثوم وكانت هناك مجموعة كثيرة جداً والمدهش كان جمعهم معاً. ومع التوغل في الكتاب ينتابك السؤال: هل ضاق محفوظ بعمره؟ ذلك ما يمكنك أن تشعر به أو تتساءل بشأنه حينما يرد قائلاً: أرى العمر طويلاً جداً ويستحق على كل حال الشكر من الله تعالى وفيه من التجارب والمعاناة ومن الجزاء ما يجعلني في النهاية أشكر. وأما القمة التي نفني عمرنا للوصول إليها فقد تبدو أمامك بلا معنى عندما تقرأ رأى محفوظ، ففي عبارة فلسفية يقول: الآن لا أشعر لا بالقمة ولا بالهاوية.. صراحة لا بد أن أقول هذا في لحظة صدق مع النفس. وعندما يسأله القعيد مع أن العمر أفنى من أجل الوصول إلى القمة؟ يقول نعم وصلت إلى القمة المتاحة لواحد مثلي ثم نسيتها بعد الوصول إليها. وأما عن نوبل فقد يصلك الشعور لحد تصور أنها كانت لعنة بالنسبة لمحفوظ حيث يقول إن لويس عوض قال له إن الموضوع لن يستغرق أكثر من أسبوعين ويعود كل شىء بعد ذلك إلى أوضاعه الطبيعية وأكد له أن هذا هو ما يحدث في الغرب عادة وأنه تجاوب على هذا الأساس. يضيف: قلت أسبوعين أو شهرين لا مانع ولكن ها هو العام الأول ينتهي والمولد هو نفسه وأنا نفسي أصبحت مطارداً في كل لحظة من لحظات العمر التي تمر أنا عموماً أبحث الآن عن أماكن بديلة للجلوس فيها سراً وبمفردي لن أخبر أحداً بذلك مهما كانت درجة قربه مني بشرط وحيد أن تكون هذه الأماكن مفتوحة في السابعة صباحا لقد تحولت إلى موظف اسمه حاصل على جائزة نوبل. أم كلثوم والقومية العربية بشكل يبدو وكأنه يأتي استكمالاً للكتاب الأول يصحبك سلماوي من خلال حواراته التي سجلها مع محفوظ في مناح أخرى تمثل رحلة في عقل الرجل بدءاً من أم كلثوم والمعاهدة النووية ورؤاه بشأن القومية العربية، بشكل آخر يمكن القول إن مجالات حوار سلماوي هي القضايا العامة أكثر من القضايا الأدبية. وإذا كان ما يشغلنا الآن قضية الإرهاب، فقد يكون معرفة رأي محفوظ يبدو أمرا مهما حيث يقول: إن القول بأن تجنّب التطرّف والإرهاب يعتمد على تجنّب الدين، إنما يعنى أن ديننا يُؤدى بالضرورة إلى الإرهاب، أو أن التنشئة الدينية تخلق الأرضية الصالحة لزراعة الإرهاب وتلك فروض خاطئة.. إن أفضل مقاومة للانحراف الدينى والإرهاب هو التربية الدينية السليمة منذ الصغر، بإبراز الجانب الإنسانى للدين وغناه وتأكيد مبدأ التسامح الذى يقوم عليه الدين والتركيز على القدوة الحسنة والحديثة.. هذا هو المصل الواقى ضد الانحراف والإرهاب، الدين هو العلاج وليس الخروج عن الدين.. لكن الدين المتقدّم بالعلم، لأن التقدّم لا يكون إلا بالعلم والدين معًا. وفي تحديده لأسباب الإرهاب يقول إن الشباب حين ينشأ في جو مريح اقتصادياً واجتماعيا فإن الحياة بالنسبة له تصبح غالبة ويصبح حريصاً عليها ويفكر كيف يسعد نفسه والآخرين لكنه حين يوضع في جو قاس طاغ فإنه إن لم يلجأ للإرهاب الديني فهو يلجأ إلى الجريمة من أجل السرقة أو القتل والكثير من الجرائم التي نسمع عنها اليوم لم تكن موجودة في مجتمعنا من قبل حين كانت الحياة أقل قسوة. وعن تأثير الفلسفة في حياته يقول: لا شك أنه كان لها تأثير كبير، فقد درست الفلسفة وعشقتها، لدرجة أننى فى بداية حياتى كنت حائرًا ما بين اتخاذها مجالاً لا لعملى أو الاتجاه إلى الأدب، وقد ظل اهتمامى بالفلسفة قائماً حتى بعد أن اخترت الأدب. وعن تأثيرها في أعماله يقول: أتصور مثلا: أن «الطريق» و«ثرثرة فوق النيل» و«ملحمة الحرافيش» و«ليالى ألف ليلة» من أكثر الروايات التى تتضمّن بعدًا فلسفيًّا واضحًا. وعن زعماء مصر الذين رحلوا، فاكتملت دورتهم، وصار تاريخهم قابلاً للتقييم، يبدأ بسعد زغلول، فتلمع عيناه وتعلو نبرة صوته: سعد زغلول هو بطل جيل بأكمله، من عرف السياسة فى جيلنا كان مدخله إليها سعد زغلول، مدخله إلى الوطنية كان سعد زغلول، مدخله إلى تاريخ مصر كان سعد زغلول. ثم يأتى دور مصطفى النحاس فى الحديث عن الزعماء، فيقول نجيب محفوظ: «النحاس» هو خليفة سعد زغلول، قد لا يتمتع بعبقرية «سعد» لكن أخلاقه وصلابته لم يُعرف لها مثيل، وكان مثالا للنزاهة بين من حكموا مصر. عالم محفوظ السينمائي ومن الحوارات إلى القصص نتابع معا قراءة سينمائية شاملة.. إن عالم نجيب محفوظ السينمائي تجده كما يقول المؤلف في بعض قصصه ورواياته بل وأيضا بما حققه من تأثير في فترة توليه بعض المناصب الإدارية والقيادية التي لها علاقة بالسينما وليس فقط في أفلام شارك في كتابتها أو أعدت عن نصوصه الأدبية. والكتاب كما يقول المؤلف يسعى لتحقيق صورة أكثر اكتمالاً وشمولاً لإسهامات نجيب محفوظ في النصوص السينمائية بمختلف مجالاتها اعتماداً على كل ما حققه النقاد والباحثون الذين عملوا في هذا المجال والذين من خلالهم ألقي الضوء على هذا الدور المهم والإنجاز الكبير الذي حققه كاتبنا في مجال السينما والذي ما زلنا نكتشف فيه المزيد والمزيد. وفيما يشير إلى مكانة محفوظ يقول المؤلف إنه احتل المركز الثاني بين كتاب السيناريو في الاستفتاء برصيد 9 أفلام بعد على الزرقاني برصيد 11 فيلماً. ويشير المؤلف من خلال ذلك إلى حجم التأثير الكبير الذي حققه هذا الكاتب الكبير في وعي ووجدان أجيال من الجماهير والتي تعد بالنسبة إليهم مصدراً أساسياً للتثقيف والمعرفة الترفيه وهو إنجاز تحقق لكاتب لم يتفرغ للكتابة معظم حياته بل ظل يواصل عمله الإداري الذي شمل مناصب قيادية مؤثرة وحساسة لفترة طويلة حتى بلوغه سن المعاش. ويقول المؤلف: إن نجاح واستمرار كتابات نجيب محفوظ في السينما دون غيره لهذا التاريخ الطويل يكمن وراءه سر بالتأكيد يتجاوز بكثير مسألة تصادف تلاقي هذه الأعمال مع لحظات السعار الجماهيري. ويشير المؤلف إلى أن لعنصر الزمن دوره الكبير في تألق محفوظ سينمائيا فظهوره في السينما المصرية ارتبط بفترة تصاعد الحس الوطني في نهاية الأربعينيات والانتقاد الشعبي والفني الشديد لمسألة الاعتماد شبه التام على اقتباس النصوص الأجنبية في أفلامنا. ثم يلقي المؤلف الضوء على جانب آخر في شخصية محفوظ وهو فن كتابة القصة السينمائية ويشرح لنا كيف اتجه نجيب لهذا التخصص وهو الذي بدأت علاقته بالسينما كشريك في كتابة السيناريو لصلاح أبو سيف في النصف الثاني من أربعينيات القرن الماضي. ويوضح أن اختيار المخرجين والمنتجين لنجيب محفوظ للمشاركة في الأعمال التي يقدمونها رغم اختلاف مستوياتها وقيمتها الفنية فإن معظمها يتميز بقيمة خاصة حيث عبرت هذه الأعمال عن قضايا وطنية وتاريخية واجتماعية ملحة وهو ما نلحظه في الناصر صلاح الدين وثمن الحرية وإمبراطورية ميم.