رغم الخطاب المعادي لكل طرف تجاه الآخر, إلا أن الأمور على ما يبدو لا تسير وفقا لدلالات هذا الخطاب، فمن منا يتصور أن العلاقات بين الحركات الإسلامية والغرب يمكن أن تكون على عسل، فقد شبع الغرب انتقادا من رواد هذه الحركات، فيما نالت هذه الحركات مانالت من انتقادات غربية تندد بما يراه الغربيون خروج من التاريخ. على الأقل هذا هو الانطباع الذي يتولد لديك حينما تغوص في قراءة الكتاب الذي صدر عن المركز القومي للترجمة تحت عنوان «التاريخ السري لتآمر بريطانيا مع الأصوليين» لمؤلفه مارك كورتيس وترجمة كمال السيد. وتتعزز لديك تلك الرؤية إذا ما وليت وجهك شطر الولاياتالمتحدة من خلال كتاب كان قد صدر منذ سنوات عن مركز دراسات الإسلام الغرب تحت عنوان «لعبة الشيطان..دور الولاياتالمتحدة في نشأة التطرف الإسلامي» لمؤلفه روبرت دريفوس اليساري الأمريكي وترجمة أشرف رفيق. والكتابان يكادان أن يكونا نسخة واحدة علي صعيد الفكرة مع اختلاف السياق, حيث فيما يركز الأول على بريطانيا يركز الثاني على الولاياتالمتحدة. غير أن الصورة لن تكتمل لك إلا من خلال كتاب عربي ثالث هو «الوحي الأمريكي .. قصة الارتباط البناء بين أمريكا والإخوان» الذي صدر في إطار مكتبة الأسرة لمؤلفه الكاتب عبد العظيم حماد وإن كان من خلال مصادر غربية أيضا، حيث يعرض للتطورات الأكثر حداثة والمتمثلة فيما يمكن اعتباره الفصل الأخير في علاقة الإخوان بالولاياتالمتحدة. والكتاب الأول يستند إلى الوثائق الرسمية البريطانية التي رفعت عنها السرية خاصة وثائق الخارجية والمخابرات ليفضح تآمر الحكومة البريطانية مع من يصفهم المؤلف بالمتطرفين والإرهابيين دولا وجماعات وأفرادا. ويؤكد الكتاب بالوثائق والتفاصيل الموثقة أن المصلحة الخاصة كانت هي الأساس في سياسة بريطانيا الخارجية وأن المبادئ والقيم ليس لها مكان فيها وأنها استندت في ذلك أساس على مبدأ فرق تسد وتقلبت في التعامل مع كل الاطراف المتضاربة. وفي ذات الوقت فإن القوى المتأسلمة، على ما يذكر الكتاب، تعاونت مع بريطانيا للأسباب نفسها المتعلقة بتحقيق المصلحة الخارجية ولأنها كانت تقاسمها نفس الكراهية للقومية الرائجة. ويشير الكتاب إلى أن أكثر من استخدمتهم بريطانيا ثم نبذتهم عندما لم يعد لهم جدوى وانتفى الغرض منهم هم المتأسلمون بدءا من الإخوان المسلمين، لبن لادن، والشيع الأفغانية للفرق الأندونيسية. ويشير الكتاب إلى أن بريطانيا مثلا موت طالبان وسلحتها ثم انقلبت عليها. ومن التفاصيل المهمة بشأن ازدواجية الخطاب الغربي ما يذكره المؤلف بشأن موقف رئيسة الوزراء السابقة مارجريت تاتشر من أنها بعد حديثها السلبي عن الإسلام فإنها راحت في وقت آخر تقول إنه بديل جيد للماركسية وأن الحكم الديني الإسلامي مصد للسوفييت. ومن النتائج الأساسية التي يؤكد عليها الكتاب هي ان بريطانيا كانت المحرك والموجه للقوى المتأسلمة في تصديها للقومية والعلمانية وفي هذا خططت لاغتيال قادتها في مصر وسوريا العراق وإندونيسيا خاصة عبد الناصر وسوكارنو، كما يصل الكتاب إلى نتيجة أساسية مفادها أن بريطانيا لعبت الدور الرئيسي في جميع الحروب التي اتخذت طابعا جهاديا.. من افغانستان للبوسنة حتى الحرب بين أذربيجان وأرمينيا حول ناجورنو كاراباخ، والحرب في كشمير وفي بلدان رابطة الدول المستقلة. ويشير المؤلف إلى أن الحكومات البريطانية ، سواء كانت من العمال أم المحافظين أقدمت على ذلك في محاولات يائسة للحفاظ على قوة بريطانيا العالمية التي عانت من أوجه ضعف متزايدة في مناطق أساسية من العالم. ويشير المؤلف إلى أنه في الفترة التي تلت 7 يوليو مباشرة كشفت التقارير المتفرقة الصلة بين أجهزة الأمن البريطانية والمتأسلمين الذين كانوا يعيشون في لندن، فقد توارد أن بعضا من هؤلاء الأشخاص كانوا يعملون عملاء او مخبرين لبريطانيا إبان انخراطهم في أعمال الإرهاب في الخارج. وقد كانت أجهزة الأمن البريطانية توفر الحماية للبعض منهم عندما يكونون مطلوبين من قبل حكومات أجنبية. غير أن الساحر، على حد ما يذكر الكتاب، انقلب على الساحر في كثير من الأحيان وانقلب المتأسلمون على صناعهم مما أثار حروبا شعواء بين الطرفين. وإن كان المؤلف في النهاية يقلل من النتيجة التي قد يصل إليها البعض بأن الإسلام المتطرف أو الجهادي العنيف صناعة بريطانية أو غربية مؤكدا أن ذلك يبالغ في تقدير النفوذ الغربي في مناطق مثل الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا حيث شكلت عوامل محلية ودولية كثيرة هذه القوى عبر فترة طويلة لكن السياسة البريطانية أسهمت في خلق خطر الإرهاب الراهن. ويؤكد الكتاب الثاني «لعبة الشيطان» على هذه الروايات التي يقدمها كورتيس وإن من خلال مصادر أمريكية، حيث يعتمد على العديد من التقارير والمقابلات مع الكثيرين ممن ساهموا في صياغة السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط سواء في البنتاجون أو الخارجية الأمريكية. وفي ذلك الصدد يتطرق المؤلف إلى الدعم الأمريكي لحركة الإخوان المسلمين في مصر خلال الخمسينيات، وكذلك دور واشطن في دعم رجال الدين على النحو الذي انتهى بهم إلى الإطاحة بإنشاء حليف أمريكا الأساسي وحركات الجهاد في أفغانستان الذي انتهى بظهور بن لادن وتنظيم القاعدة. يقول دريفوس في معرض تقديمه لرؤيته إن الولاياتالمتحدة مولت وشجعت النشاط الإسلامي اليميني أحيانا في الخفاء وأحيانا في العلن وأن الإمبراطورية التي أقامتها الولاياتالمتحدة كانت قائمة في جانب منها على الإسلام السياسي. وعلى المنوال ذاته الذي اتبعته بريطانيا، يذكر دريفوس أنه خلال سنوات الحرب الباردة التي امتدت من 1945 وحتى 1991 وجدت الولاياتالمتحدة أنه من المناسب سياسيا أن تختلق قضية مشتركة مع اليمين الإسلام خلال الصراع الذي استمر عقودا ضد القومية العربية وضد الاتحاد السوفييتي. ويؤكد المؤلف أن الولاياتالمتحدة في سياساتها تلك لم تكن تلعب ببطاقة الإسلام على أنه الديانة والنظام المحكم والتقاليد والمعتقدات التي يعتنقها ملايين المسلمين، بل تلعب ببطاقة التشدد الإسلامي والذي يصفه المؤلف بأنه عقيدة ذات جذور تعود الى القرن التاسع عشر، واصفا الكيان الجديد – التشدد – بأنه نسخة مشوهة من العقيدة الدينية. ويكشف الكتاب مثلا عن أن الولاياتالمتحدة مولت سرا أحد آيات الله أسس حركة الأنصار في الإسلام، خلال الانقلاب الذي وقع في إيران بتخطيط من المخابرات الأمريكية عام 1953. ومما يذكره المؤلف في السياق المصري ان جماعة الإخوان شكلت تهديدا خطيرا على نظام الرئيس الأسبق مبارك لكن الولاياتالمتحدة تلاعبت بورقة تأييد الحركة وبانتهاء الحرب الباردة بحلول التسعينيات أصبح وجود اليمين الإسلامي لا طائل من ورائه، الأمر الذي وصل حد تأكيد بعض خبراء الاستراتيجية أن الإسلام السياسي يشكل تهديدا جديدا بدلا من الشيوعية العدو العالمي للولايات المتحدة. وعلى نفس النحو يتطرق المؤلف لمقولة البعض بأن الولاياتالمتحدة لم تنشئ الاصولية الإسلامية من عدم، مضيفا وهذا حقيقي، مؤكدا على أنها كان لها دور في تعزيز تلك النشأة. وفي تحديده لأسلوب التعامل مع هذه القضية يذكر دريفوس أن الحرب على الإرهاب على النحو الذي قامت به واشنطن قد لا يكون الوسيلة الأكثر مناسبة في هذا الصدد، مضيفا أن المشكلة الأكبر أن قوى التطرف الإسلامي في الشرق الأوسط وآسيا أكثر تعقيدا مما قد يبدو محذرا من أنه إذا لم يتم إيقاف اليمين الإسلامي من الممكن ان تعيد القاعدة بناء نفسها أو كما حدث في العراق عقب الغزو الأمريكي قد تظهر منظمات جديدة تشبه القاعدة من حيث الغضب والسخط على الولاياتالمتحدة. وهنا يطالب المؤلف الإدارات الأمريكية بأن تتخلي عن تدخلاتها الاستعمارية في الشرق الأوسط وأن تتوقف عن السعي إلى فرض خياراتها المفضلة على المنطقة، وترك شعوب المنطقة تنخرط في بناء دولها.. هنا فقط يمكن توفير الأرضية لبناء ديني ينطلق من أسس سليمة. إذا كان الكتابان السابقان يقفان عند فترة ما بعد أحداث سبتمبر ويقدمان رؤية عامة لموقف القوتين الغربيتين – بريطانياوالولاياتالمتحدة – من القوى الإسلامية عموما وعبر التاريخ الحديث، فإن الكتاب الذي يقدمه عبد العظيم حماد «الوحي الأمريكي» يقدم لنا ما يمكن وصفه بدراسة حالة وهي الطور الأخير لعلاقة الإخوان بالولاياتالمتحدة متناولا ما يصفه بليالي وأيام نزول الوحي الامريكي على جبل المقطم – حيث مقر الجماعة – والتي كانت بمثابة بوادر في تحول مواقف الجماعة في الكثير من القضايا الجوهرية. صحيح ان الكاتب يبدو – على عكس نظيريه الغربيين – يتحسس خطاه في تقديم معلوماته كمن يسير على حبل بين جبلين يخاف أن يقع، ما يعكس حرصه على مراعاة الدقة والحياد، إلا أن ما يقدمه بالغ الثراء والأهمية في فهم طبيعة موقف الجماعة وتحولاته سواء قبل ثورة يناير مباشرة أو بعدها، يصعب إن لم يستحيل ذكر تفصيلاتها رغم أهميتها في مثل هذه العجالة السريعة التي تعرض لفكرة الكتاب الأساسية فقط. لقد كان عام 2007 كما يذكر حماد هو عام الاساس لكل ما جرى من تحولات درامية في موقف الجماعة من الولاياتالمتحدة ومن ثم إسرائيل، بدت إرهاصاتها في تصريح العريان بأن الإخوان لا يجب أن يتعاملوا مع معاهدة السلام على أساس الحلال والحرام وإنما الواجب هو التعامل معها بمعايير المصلحة السياسية. ذلك التحول قبل الثورة سينتهي فيما بعد، على ما يذكر المؤلف، إلى انخراط الجماعة في الاستراتيجية الأمريكية للارتباط البناء، الذي يتضمن قبول إسرائيل ونبذ العنف وإدانة الإرهاب والتعاون مع الولاياتالمتحدة في مكافحته واستئصاله، وذلك جنبا إلى جنب مع شركاء آخرين أهمهم الحكومة القطرية والحكومة التركية. ومن المفارقات بالغة الأهمية التي يرصدها المؤلف في إطار حديثه عن الإخوان المغتربين الذين شكلوا لوبيا إسلاميا في أمريكا أنه بينما يعمل اللوبي اليهودي بنجاح على تطويع السياسة الأمريكية لمصالح وأهداف إسرائيل فإن المطلوب من اللوبي الإسلامي في الولاياتالمتحدة هو تطويع جماعتهم الأم للمطالب الأمريكية لتمكينها من الوصول إلى في مصر ثم في بقية الدول العربية ثم تطويع سياسات هذه الدول وفي المقدمة منها مصر للالتزامات الأمريكية نحو إسرائيل.