بعد ثورتين قامتا لتحقيق العدالة الاجتماعية لم يعد لائقا أن يظل ملف العشوائيات في مصر كما هو ولم يبرح مكانه، لم يعد لائقا أيضا أن تهرول مصر الي التنمية والانفتاح علي العالم وتستمر العشوائيات علي ما هو عليه في قلب القاهرة وفي سائر محافظات المحروسة كالسرطان، تتوحش، تتمدد، تستفحل بكل ما تحمله في أحشائها من مشاكل اجتماعية جعلتها بؤرا للجريمة وبيع المخدرات أو أوكارا للمجرمين والإرهابيين. هذا الملف الذي تطرحه «الوفد» اليوم يجب أن تواصل الحكومة علاجه بكل قوة وحسم للقضاء علي هذه البؤر السرطانية بعد أن فشلت كل محاولات العلاج الجزئي، ويفرض هذا الواقع المؤلم أن تغير الحكومة من سياستها الإسكانية لتتوسع في إنشاء المساكن التعاونية وتجهيزها بالخدمات والمرافق وتنقل سكان العشوائيات اليها وإلا ستتفاقم. وعلي الرغم من حالة الفرح التي تعتري قطاعات عرضة من المصريين بشأن مستقبل أفضل إلا أن حال سكان العشوائيات مازال عند حده الأدني حيث لا جديد تقريبا بالنسبة لأوضاعهم سواء قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير أو بعدها. ومن المؤسف أنه في اللحظة التي تعبر فيها مصر نحو المستقبل مازال قرابة 40٪ من السكان يقيمون في عشوائيات غير صالحة للحياة الآدمية فضلا عن مليون ونصف المليون نسمة يعيشون في المقابر. وهو ما تعترف به وزيرة التطوير الحضاري والعشوائيات ليلي إسكندر ومن أبرز المناطق العشوائية في القاهرة عزبة القرود وأبوحشيش وعرب غنيم والحكر وكفر العلو ودار السلام ومناطق أخري تمثل حزاما ناسفا حول العاصمة مصر وقنابل موقوتة من أبرز مكوناتها الفقر والبطالة والانحراف والادمان والزواج العرفى والبلطجة والإدمان، كل تلك الظواهر السلبية تفرزها العشوائيات لتؤرق المجتمع وتهدد أمنه وأمانه، لذلك تعد مشكلة العشوائيات من اكبر المشكلات التى واجهت الحكومات المتعاقبة نظراً لما ينتج عنها من أزمات اجتماعية وأمنية وصحية واقتصادية ووفقاً للجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء فإن عدد العشوائيات فى مصر يبلغ 1221 منطقة منها ما تمت إزالته بالكامل لأنها لا تقبل التطوير وتبلغ عددها 20 منطقة ومنها ما هو قابل للتطوير، ويقطن تلك المناطق ما يقرب من 40 مليون مواطن، تحظى القاهرة بنصيب الأسد منها حيث بلغ عدد سكان عشوائيات القاهرة 33% من سكان عشوائيات مصر ويرجع ذلك الى أسباب عديدة مرتبطة بالتعليم والخدمات وايضاً هجرة أهل الريف اليها، والآن بعد أكثر من 20 عاماً تحاول فيها الحكومات الواحدة تلو الأخرى القضاء على ظاهرة العشوائيات، لذا لابد من إثارة عدة تساؤلات، هل هناك آثار ملموسة وواضحة لتحسين مستوى معيشة المواطنين فى تلك المناطق؟ وهل نستمر فى انفاق المزيد من الاموال دون وجود عائد واضح؟ وإلى متى؟ «الوفد» تفتح هذا الملف فى محاولة منها لايجاد حلول واجابات لتلك التساؤلات. حياة بطعم القرون الوسطي تعد عزب محمد نجيب أو عزبة زينب الوكيل والبيضا وعرب حوشان وغيرها من المناطق، التى قام سكانها بتشييد بنايات عشوائية غير مطابق للمواصفات دون تراخيص عنوانا علي التخلف وفى ظل غياب المسئولين عن أداء واجبهم وتطبيق القانون الذى يجرم البناء على أراضٍ زراعية اتسعت رقعة تلك العشوائيات وتحولت لمأساة يعانى منها ما يقرب من نصف مليون نسمة فى حى المرج. رائحة كريهة صادرة من مياه صرف غير صحى تقودنا الى قصر محمد نجيب الذى يمثل جزءا مهما من تاريخ مصر الحديث يحيطه منطقة عزبة محمد نجيب التى طالها اهمال المسئولين على مدار عقود مضت، مبان مهددة بالسقوط ومساجد ترسم الشروخ على جدرانها صورا يشيب لها الرأس،شوارع يسودها الظلام لتكون مرتعا للمجرمين من تجار المخدرات وسارقى السيارات من أصحابها بعد تهديدهم بالسلاح هذا ما أكده الحاج عبدالفتاح صلاح 45 عاماً من أهالى المنطقة قائلاً: أهالى منطقة عزبة محمد نجيب مش عايشين، والدولة بتعتبرنا مواطنين درجة تانية يعنى لا يوجد صرف صحى ولا مياه نظيفة ولا أمن، نحن نعيش على ضفاف رشاح يبعث الينا الروائح الكريهة والأمراض لنا ولأولادنا فضلاً عن ارتفاع منسوب المياه بالرشاح فى أوقات توقف محطة الرفع مما يؤدى الى غرق بيوتنا بالإضافة الى انتشار البلطجة حيث تتم سرقة سيارات المارة بعد تثبيت أصحابها ليلاً بسبب عدم وجود أضواء كاشفة وغياب الأمن، وأنهى عبدالفتاح صلاح كلامه مناشداً رئيس الحى بالعمل على توفير محطة صرف صحى وردم الرشاح والنظر لهذه المنطقة بعين الرحمة. من جانبه صرح الدكتور عواد أحمد رئيس حي المرج بأن منطقة عزبة محمد نجيب تتبع مركز القلج بمحافظة القليوبية وليست فى نطاق محافظة القاهرة، وبالتالى فهى لا تتبع حى المرج ولكن نحن نتعامل مع أهالى المنطقة ونقدم لهم الخدمات فى حدود الواجب الأدبى فقط وأضاف «عواد» أن هذه منطقة حائرة لانها تقع بالفعل فى نطاق محافظة القاهرة ولكنها تخضع للقليوبية لذا نناشد المسئولين بسرعة إعادة ترسيم حدود المحافظات وضم منطقة عزبة محمد نجيب لحى المرج حتى يتنسى لنا خدمة أهالينا بتلك المنطقة. المواطن له دور رئيسى فى القضاء على العشوائيات، قالها د. عواد أحمد رئيس الحى أثناء تصريحاته للوفد مؤكداً أن البناء العشوائى الذى ينتج فى النهاية مبانى كثيراً منها تقام على أرض غير مستقرة من قبل الأهالى وعدم اللجوء الى الحى لاستخراج تصاريح بناء، هو السبب فى وجود كيانات عشوائية مما يصعب دور الدولة فيما بعد إنشاء بنية تحتية متمثلة فى الصرف الصحى وتوصل مياها نظيفة للمواطنين، وعدم وصول الخدمات الامنية لهذه المناطق بالطريقة المثلى، ونظراً لوجود شوارع لا يتجاوز عرضها مترا ونصف المتر فإنه فى كثير من الأحيان يصعب على سيارة مطافى الوصول لأى حادث حريق، أما من الجهة الأمنية فإن الخروج من هذه المناطق اصعب بكثير من الدخول فيها، واستطرد عواد قائلاً رغم ذلك فإن حى المرج قام بإزالة مجموعة كبيرة من العشش بشارع مؤسسة الزكاة ثم تسكين 1460 أسرة, 18 محلا بعمارات مؤسسة الزكاة وانشاء مجمع مدرسى وذلك بتكلفة 85 مليون جنيه، ولذلك نطالب المواطنين بالحفاظ على تلك الإنجازات باعتبارها حفاظا علي المال العام. حلول علي الورق المطالب دائماً مشروعة والاستغاثات دائماً مقبولة حينما تكون فى الاتجاه من المواطن الى المسئول،لكن الغريب فى الامر وما يثير الدهشة عندما تناشد رئيس حى المرج كمسئول تنفيذى فى الجهاز الادارى للدولة وزيرة التطوير الحضارى والعشوائيات، د. ليلى إسكندر مطالباً الوزيرة بالنظر الى العشوائيات التى مازالت موجودة على ارض حى المرج بمنطقة المدارس وترعة برلنت، وادراجها ضمن خطة العشوائيات حتى يتم القضاء نهائياً على العشش. كما طالب الدكتور عواد هيئة الأبنية التعليمية بسرعة تنفيذ وإنشاء المدارس بمنطقة الشرفاء والتى قد تم إخلاء سكان العشوائيات بها وتسكينهم بمساكن المحافظة، والأرض الآن مهددة بالاستيلاء من قبل بعض تجار الأراضى حيث تم تسليم المنطقة منذ ما يقرب من عام الى هيئة الأبنية ولم تتخذ الهيئة حتى الآن خطوات نحو إقامة تلك المدارس. «لا توجد إرادة حقيقية لدى الحكومة لتطوير العشوائيات», بهذه الكلمات بدأ بها الدكتور جمال زهران أستاذ العلوم السياسية حديثه عن مستقبل العشوائيات فى وزاره التطوير الحضارى وعن رأيه في الخطوة التي اتخذتها الحكومة بإنشاء صندوق تمويل رعاية العشوائيات، قال:«هي خطوة جيِّدة، كما أن وضع مبلغ 500 مليون جنيه من الحكومة لتأسيس الصندوق خطوة عَملية مهمة، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل الحكومة جادّة أم أنها مجرّد مسكِّنات لامتِصاص غضب الشعب، واضاف نحن نقدر الجهود المبذولة من قبل الوزارة لكننا لسنا فى حاجه لوزارة العشوائيات لأن هذا يؤدى الى تداخل مع وزاره التنمية المحلية والعشوائيات جزء من المحليات تحتاج الى دعم وتمويل ورؤية لا تحتاج الى وزارة ويوضح زهران أن «السبب الرئيسي لنشوء العشوائيات، هو الفساد المُستشري في المحليات وعدم تطبيق القانون، فضلاً عن انتشار الرشوة والمحسوبية، لهذا، فإن العشوائيات في مصر مرشّحة للزيادة، والمشكلة في طريقها للتضخم». ويقول زهران: «منذ بداية التسعينيات والحكومة تتحدّث عن مشروع لتهذيب وتطوير العشوائيات، لكن شيئًا من هذا المشروع لم يرَ النّور، رغم أنها حصلت على أموال ومِنح أجنبية طائلة لمعالجة هذه العشوائيات، ولا نعرف حتى اليوم أين ذهبت هذه المنح؟! وهو ما يشير إلى أن هناك فسادا في التعامل مع المَعُونات والمِنح، وليس هناك شفافية، فضلا عن أن ردّ فعل الحكومة محدود وبطيء للغاية». الهجرة الداخلية آفة العشوائيات من جانبه قال المهندس على مصطفى وكيل أول وزارة الاسكان السابق ورئيس مجلس ادارة شركة مصر الجديدة للاسكان والتعمير: إن العشوائيات يسكنها معدومو الدحل والجماعات المهاجرة من الريف بحثاُ عن اماكن رزق بالاضافة الى بعض الهاربين من أحكام قضائية ومعظم هؤلاء من محافظات الصعيد التى لا تحظى بتنمية حقيقية واهتمام من الدولة لذلك علينا أولاً الوقوف على أسباب تلك المشكلة وتحديدها بكل دقة بمعنى أنه يجب على الدولة ان ننظر الى المحافظات الأكثر فقراً والأقل حظاً فى خطة التنمية وتوفير فرص عمل وخدمات لا تقل عن الخدمات المقدمة لأهالى القاهرة والاسكندرية، وأشار الى أن غياب تطبيق القانون وعدم الشفافية فى المحليات ووجود بعض من ضعاف النفوس فى تلك المحليات أحد أهم الأسباب التى تفرز مثل هذه العشوائيات. وأضاف: نمتلك ترسانة من القوانين تحتاج الى إرادة سياسية, كما أن المصالحة مع المخالفين للقانون يجب إعادة النظر لأنه لا يجب بأى حال من الأحوال المصالحة مع من يخترق القانون الذي تكافئه الدولة فى النهاية بتوصيل المرافق له طبقاً لتلك المصالحة، وأنهى حديثه المهندس على مصطفى مناشداً الجمعيات ورجال الأعمال والمؤسسات المدنية ان تقوم بدورها تجاه تلك العشوائيات، مشيراً الى أن الحكومة وحدها لن تستطيع القضاء على تلك الظاهرة لذا يجب أن تفرض رسوما تستقطع من أصحاب «الكومباوندات» والمنتجعات لحساب صندوق تطوير العشوائيات مؤكداً على أن يجب أن يكون هناك تكافل اجتماعى وأن يقوم الأغنياء بمسئوليتهم الاجتماعية تجاه الفقراء والمحرومين الذين يعيشون تحت الأرض.