موائد الرحمن.. ذلك الاختراع المصري العظيم المستمد في الأساس من السنة المحمدية والتراث الإسلامي يعد أحد المعالم المهمة في الشهر الكريم وخاصة في مصر حيث تزدان الشوارع والميادين بتلك الموائد التي تستقبل الصائمين من الفقراء والمسافرين، ولكن اللافت هذا العام هو انتشار الشنط الرمضانية التي تنافس بقوة موائد الرحمن.. بل لعلها بحسب رأي المراقبين والأهالي تمثل نموذجاً أكثر رحابة وطمأنينة خاصة بالنسبة لأولئك الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف الذين انتقلوا تحت وطأة الحياة الاقتصادية وتقلباتها العنيفة من سلم الستر إلي فضاء العوز وشدة الحاجة فيما يلي نرصد تأثر الحالة الاقتصادية للبلاد خلال السنوات الأخيرة لتراجع عدد موائد الرحمن والجهود التي تقوم بها القوات المسلحة في هذا المضمار والأسباب التي أدت لتقلص تلك الظاهرة الحسنة في المدن المصرية بشكل عام. أيام وينتهي شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وهو الشهر الذي اشتهر بكثرة فعل الخيرات من صدقات، وزكاة.. يسعي كل صائم لإخراجها لوجه الله بشتي الطرق، وارتبط هذا الشهر بموروثات قديمة كموائد الرحمن التي تملأ الشوارع، وكان القائمون عليها يتنافسون لإفطار الصائمين، وعلي الرغم من أن تلك الموائد كانت وسيلة لإطعام الفقراء وإدخال البهجة إلي نفوسهم، إلا أن ما مرت به البلاد من أوضاع اقتصادية سيئة في السنوات الأخيرة، كان سببا في انخفاض عدد تلك الموائد بصورة ملحوظة، واختفائها في الكثير من المناطق.. لتحل محلها بدائل أخري. يعود تاريخ موائد الرحمن إلي عهد الرسول صلي الله عليه وسلم، عندما جاء إليه وفد من الطائف اعتنقوا الإسلام، وكان الرسول يرسل إليهم الإفطار والسحور مع «بلال بن رباح»، ومنذ ذلك الحين، سار الخلفاء الراشدون والصحابة علي نفس النهج، واتخذت موائد الرحمن نطاقاً واسعاً، وعلي الرغم من اختلاف الروايات حول انتشارها في مصر والتوسع فيها، إلا ان هناك الكثير من الروايات تؤكد أن الأمير أحمد بن طولان، مؤسس الدولة الطولونية هو أول من أقام الموائد في مصر، في السنة الرابعة من ولايته، حيث جمع التجار والأعيان والفقراء، علي مائدة حافلة في أول أيام شهر رمضان، وخطب فيهم قائلاً: «لم أجمعكم حول المائدة إلا لأعلمكم طرق البر بالناس، فأنتم لستم في حاجة إلي مائدتي، ولكنني آمركم أن تفتحوا بيوتكم، وتعدوا موائدكم، بأحسن ما ترغبونه لأنفسكم، ليتذوقها الفقير والمحروم». وأخبركم بأن تلك المائدة ستستمر حتي نهاية شهر رمضان. واستمر الأمر في عهد الفاطميين كما دون المقريزي في تاريخه أن الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، أقام مائدة في رمضان ليفطر عليها أهل الجامع العتيق «عمرو بن العاص»، وكان يخرج من قصره الطعام لتوزيعه علي الفقراء، وكان الفاطميون وقتها يعدون الموائد باسم «الفطرة» وكانت تقام بطول 175 متراً وظلت الموائد مستمرة إلي أن تراجعت في عهد المماليك والعثمانيين، إلي ان عادت مرة أخري لتظهر بوضوح في نهاية السبعينيات، وتقام موائد الرحمن في الشوارع والميادين بالأحياء الراقية والشعبية، ويتولي القادر إقامتها من خلال تجهيز الشوادر قبل قدوم الشهر الكريم، وتتنوع أصناف المأكولات علي تلك الموائد، التي يقبل عليها البسطاء وكل من لا يستطيع تناول وجبة الإفطار بالمنزل، ومن ناحية أخري يتولي مسئولو المساجد إقامة تلك الموائد أيضا، حيث اعتادت المساجد الكبيرة، والجمعيات الخيرية علي إقامتها لمساعدة غير القادرين، ويتردد علي تلك الموائد عدد كبير جدا من المواطنين، الذين يشعرون بروح التآلف والمودة، إلا أن ما حدث مؤخراً أدي لإطلاق مديرية أوقاف القاهرة تحذيرات عديدة من إقامة أية موائد إفطار بالمساجد خلال شهر رمضان دون الرجوع إليها والحصول علي تصريح رسمي، حتي لا يتم استغلالها بشكل سيئ. كما قررت الأجهزة الأمنية أيضا عدم إقامة موائد الرحمن بالشوارع والميادين إلا بتصريح رسمي مسبق، وعلي الرغم من أن الأرقام والإحصائيات الرسمية أكدت أن عدد موائد الرحمن في العام الماضي كانت تبلغ نحو 150 ألف مائدة، إلا أن هذا العام شهد انخفاضا كبيرا نتيجة غلاء الأسعار والأوضاع الاقتصادية المتردية للبلاد، فتراجع عدد الموائد بنسبة كبيرة وتشير إحصائيات إلي أن حجم الانفاق علي تلك الموائد في الأعوام الماضية كان يقدر ب 520 مليون جنيه. ومن ناحية أخري حرصت القوات المسلحة هذا العام علي إقامة نحو 164 مائدة رمضانية تم توزيعها علي المناطق الأكثر احتياجا بكافة المحافظات بمعدل 134 ألف وجبة معلبة تقدم للصائمين طوال الشهر الكريم. الشيخ شوقي عبداللطيف رئيس قطاع الشئون الدينية، ونائب وزير الأوقاف الأسبق، يقول: لابد أن نعلم أن التكافل بين أفراد الأمة هو مبدأ إسلامي أصيل، حيث إن للفقير حقا معلوما في مال الغني، فالفقراء وكلاء الله، ولابد أن تشمل الرعاية الفقراء والمساكين، والمحتاجين، وقد ركز القرآن الكريم علي هذا الأمر، أما موائد الرحمن، فهي تعد لوناً من ألوان العمل الطيب، فالإنسان يقدم النقود والملابس، والأطعمة للفقراء، لكن موائد الرحمن أصبحت بحاجة إلي تنظيم، لأن هناك أماكن تحتاج لإقامة تلك الموائد بها، وأماكن أخري لا تحتاج، كما يجب أن تكون تلك الولائم للبسطاء والمحتاجين فقط، وأن يترفع من يملكون قوت يومهم من الجلوس عليها، لكن يتركوا الفرصة لمن لا يجد قوت يومه أن يحصل علي إفطاره. ومن ناحية أخري نجد أن هناك الكثير من البسطاء يرفضون الجلوس علي موائد الرحمن، لذا فلابد من اللجوء لأساليب أخري للتكافل، فالرسول صلي الله عليه وسلم، كان يجمع أموال الزكاة في بيت المال، ويقوم بتوزيعها علي الفقراء، وكان هناك مكان يسمي «الصُفة» بمسجد الرسول يجتمع فيه الفقراء، ويأتي القادرون بالأطعمة لتوزيعها علي المحتاجين. ويؤكد الشيخ شوقي عبداللطيف، أن الأوضاع التي مرت بها البلاد بعد ثورة 25 يناير، أثرت علي موائد الرحمن، فانخفض عددها في الشوارع، فقد حدث ارتباك بالمشهد الاجتماعي والإنساني ونأمل أن تعود الأوضاع إلي ما كانت عليه قريباً. ومن جانبه يقول الدكتور عبدالمطلب عبدالحميد، أستاذ الاقتصاد، والإدارة بأكاديمية السادات للعلوم الإدارية، التغيرات التي طرأت علي المجتمع في الآونة الأخيرة من ثورات ومرحلة عدم استقرار أدت لتراجع موائد الرحمن، فتدهور النشاط الاقتصادي في البلاد، وكان له تأثير واضح، فلم تعد الحياة لأوضاعها الطبيعية، ولا شك أن ذلك أثر سلباً علي منظمي الموائد، فانخفض عددها بالشوارع، ومن ناحية أخري ظهرت مؤخراً بدائل جديدة حلت محل موائد الرحمن، مثل «شنط رمضان» التي يتم توزيعها علي البسطاء والمحتاجين، والتي يراها البعض أفضل وأسهل من موائد الرحمن، كما يقوم البعض أيضا بتوزيع وجبات علي الفقراء قبل الإفطار، وهذا يعد تطوراً للأحداث في المجتمع، ويعني أن المجتمع بدأ في الدخول لمرحلة جديدة، خاصة وان شنطة رمضان تحتوي علي العديد من السلع الأساسية كالسكر والزيت والسمن والأرز وهي سلع لا غني عنها في رمضان.