لم يعد جديدا ان نسير في شوارع مصر، فتطالعنا عشش الصفيح وبيوت اسقفها من «الخيش» في عشوائيات هي وصمة عار في جبين نظام افسد حياة المصريين وأهدر ادميتهم، ولم يعد جديدا ان نزور موتانا بالمقابر، فتطالعنا وجوه الاحياء التي احتلت المقابر وزاحمتهم في رقدتهم الاخيره، بعد ان ضاقت بهؤلاء الأحياء سبل الحياه علي وجه الارض، لكن الجديد، بل آخر ما افرزه لنا عهد النظام البائد السابق هو عائلات الرصيف، هؤلاء الذين لم يجدوا لهم مكانا بين العشش ولا داخل احواش المقابر، فلفظتهم كل هوامش الحياه لتلقي بهم علي الرصيف، حيث ينامون، يأكلون، يشربون وقد يتناسلون تحت أعين المارة بلا ساتر أو جدران تحميهم من اعين الفضوليين، أو تقيهم برد الشتاء وشمس الصيف الحارقة، وقد انتشرت في الاونة الاخيرة ظاهرة عائلات الرصيف بصورة متزايدة لم تجد معها من يقف امام هؤلاء ليحل مشكلتهم، أو حتي يتحرك لإجلائهم من الارصفة إلي مكان آخر . الوفد الأسبوعي زارت منازل هؤلاء، اقصد أرصفتهم التي احتلوها وحولها الي منازل مفتوحه، لتتعرف عن قرب علي حجم المآساة الانسانية التي يعايشونها هم واطفالهم كل يوم، وما يلاقونه من تحرشات أو تهديدات البلطجية، وكان أول منزل علي الرصيف زرناه بالقرب من ميدان الدقي، والذي يعد أحد الميادين الراقية بقلب القاهرة، وتحديداً في شارع التحرير، حيث تقيم آية عصام جمعه وزوجها سيد نصر بسيوني، وقد افترش الزوجان الرصيف، وبجانبهما معدات ضرورية للحياة والنوم، عبارة عن سجادة باليه وطبق وكوب ماء، وبقايا خبز جاف، واكياس تضم اطعمة جاد عليهما بها الماره، المثير ان الزوجة آيه لم تتعد 16 عاما، وزوجها 18 عاماً. كانت ملامح وجهها تحمل بقايا طفولة اكثر من ملامح امرأة، لكنها طفولة بائسه انتهكت مبكرا، عظامها الناحله تكشف ما تعانيه من شظف العيش والحاجة، وتروي آيه قصتها حتي وبدءاً من منزل والدها بالجيزة وصلت إلي الرصيف قائلة: كان والدها ميكانيكيا، رزقه قليل، رغم ذلك عرف طريقه الي إدمان الخمر، كان يعود كل ليلة فاقدا للوعي، لينهال عليها وعلي أمها بالضرب والسب والاهانة، واذا لم يجد من يؤذيه منهما، انهال علي جسده هو ضربا وتقطيعا كالمجنون. وتضيف آية التي أوشكت علي وضع طفلها الأول: كان يستولي علي الجنيهات المعدودة التي تكسبها أمها من الخدمة بالمنازل، بل دفع بآية في سن مبكرة الي الشارع لبيع المناديل للمارة بإيعاز من جدتها لابيها، حتي يجد الاب القاسي ما ينفقه علي مزاجه من الخمر، وبالفعل تركت آية دراستها في المرحلة الابتدائية، وعرفت الطريق الي الشارع، تعرضت لآلاف المضايقات، التحرشات الطامعة في جسدها الصغير، لكنها صمدت وقاومت، ولم تسلم في كل هذا من أيدي رجال الامن، حيث القي القبض عليها اكثر من مرة من قبل شرطة الأحداث، وتحرر لها عدة محاضر تسول. وتكمل آية قصتها وقداعترت ملامحها كل علامات الخوف والفزع وهي تتذكر ما كان يفعله بها والدها، وما كانت تواجهه قبل زواجها، فتقول: التقيت بزوجي سيد، وكان يبيع ايضا المناديل، وشعرت انه الرجل الذي سيحميني من الضياع في الشوارع، ولكن والدي رفض زواجي منه، حتي لا يفقد الاموال التي اعطيها له يوميا من بيع المناديل، ولكني قررت ان احمي نفسي من والدي ومن الشارع، فتزوجت سيد بكتابة عقد زواج لدي محام، علي ان احولها لعقد قران رسمي عندما ابلغ السن القانونية. وتبكي آية قائلة: ما معناه «كل ما احلم به غرفة لي ولزوجي، لا أريد ان الد طفلي علي الرصيف، لا اريد له ان يعاني ما اعانيه الآن، لقد ظلمني ابي وحرمني من التعليم، وظلمتني الدولة وحرمتني من طفولتي وحقي في حياة كريمة، وظلمني المجتمع ولم يقدم لي يد المساعدة الحقيقية، من حقي انا وزوجي وآلاف الاطفال غيري ان يكون لنا المأوي الذي يحمينا، والأسر البديلة التي ترعانا وتعلمنا إذا ما عجزت أسرنا عن توفير هذا الحق لنا . ويلتقط زوجها سيد اطراف الحديث فيقول، تربيت في الشارع، ماتت امي وهي تلدني، ومنذ موتها وابي يشعر اني عبء ثقيل عليه، فأهملني، وتركني لحياة الشارع، ابحث عن طعامي بين صناديق القمامة، ولم اجد سوي بيع المناديل وسيلة لكسب لقمة العيش، وعندما بلغت 18 عاماً، اردت ان احمي نفسي من اي انحراف، فقررت الزواج علي سنة الله ورسوله، ووجدت في آية الزوجة الطيبة التي يمكن ان تعينني علي مشاق الحياة، وظروفها تتشابه مع ظروفي الصعبة، ولكن لم تتوافر لنا متطلبات الزواج من شقة واثاث وخلافه، ولم نجد سوي الرصيف مأوي لنا، فهل هذا يرضي اي انسان له ضمير في بلدنا. ويضيف سيد قائلا، اذا كانت الدولة تري ان وجودنا في الشوارع وعلي الارصفه يسيء الي المظهر الحضاري، ويشوه سمعة البلد السياحية وغيره مما نقرأه ونسمعه، فلماذا لا يتحرك المسئولون لإصلاح أوضاعنا، ومساعدتنا لنعيش بصورة آدمية كريمة، لماذا لا يقدمون لنا ولو غرفة لإيوائنا، ويساعدوننا في الحصول علي اي حرفة او مهنة نتكسب منها لقمة حلال، ان ما يحدث لنا الآن يمثل مزيدا من الظلم، الشرطة تطاردنا بين وقت واخر، ويتم القبض علينا وتحرر المحاضر ضدنا، نضرب ونهان، هل هذا هو جزاء صبرنا علي ما نلاقيه من ظلم وتجاهل المسئولين لنا.. مآسٍ أخري وعلي بعد عدة امتار من هذا المنزل الرصيفي، كان هناك منزل آخر، تقطنه نعمة محمد السيد 45 عاماً، وبرفقتها أولادها الخمسة، كانت وأولادها قد افترشت «مرتبة» اسفنجية متهالكة، لا يقل بؤس حالها عن البؤس المرتسم علي وجوههم، لتعبر عن مدي الفقر والحاجة التي تطحنهم، ونعمة كانت قبل اعوام تقيم في شقة متواضعة بمنشية ناصر، ولكن زوجها الذي يعمل يوما بيوم، ودخله المتواضع، لم يعد يكفي للوفاء بإيجار الشقة، والذي تراكم عاما بعد عام، ليطردهم المالك، ولتجد نفسها واولادها وزوجها علي الرصيف. وتواصل سرد مأساتها في حياة الرصيف «فقدت اثنين من اولادي بسبب تلك الحياة القاسية وبسبب رجال شرطة قسم الدقي وقلوبهم الاشد قسوة من حجارة هذا الرصيف»، فذات يوم هاجمونا لإجلائنا من فوق الرصيف، وكنت حاملا، وعندما رفضنا مغادرة المكان لاننا لا نجد البديل، قاموا بسحلي علي ارض الشارع وسط الضربات واللكمات، وعندما وصلت لقسم الدقي، كنت قد فقدت وعيي وفقدت معه جنيني، فتم نقلي للمستشفي، وألقيت بجنيني ميتا، دون ان اجد من يأخذ حقي وحق طفلي منهم، ولم تكن هذه المرة الوحيدة، بل قاموا مرة أخري بمهاجمتنا، وكنت احمل طفلتي الأخري، وكان عمرها بضعة أشهر، وانهالوا علي ضربا انا وابنتي، حتي لفظت الطفله انفاسها، بل وامروني بدفنها بسرعه، وكأن الوفاة طبيعية، وهددوني بأولادي، وان مصيرهم سيلحق بمصير أختهم إذا ما فضحت ما فعلوه بي وبطفلتي. وتضيف نعمة: تحملت الكثير لأحافظ علي حياة بقية أولادي محمد وناصر، واحمد وجنة وحبيبة، نقضي يومنا خائفين من الشرطة، وليلنا خائفين من البلطجية واللصوص خاصة لصوص الاعراض، افعل المستحيل حتي لا يكون لأحدهم سابقة او ملف بالشرطه، كنت احلم ان يتعلموا مثل اولاد الناس، ويكون لهم مستقبل افضل من مصيري، لقد قبلت المر لأجلهم، بعت كل ما املك، ورفضت ان ابيع نفسي، رغم ان ذلك طريق سريع للكسب لمن هم في حالتي، ولكني ارفض القرش الحرام، الجنيه الحلال الذي أكسبه من بيع الشاي أو المناديل اكرم لي ولاولادي، اننا ننام علي الرصيف، ونفترش هذه المرتبه بالتوالي وبالدور، فهل هذا يرضي المسئولين، انني ارفع وجهي للسماء كل يوم، وأستغيث بالله عسي ان يرق قلب اي مسئول لحالنا وينقذ أولادي من علي الرصيف. ولم تكن أرصفة الدقي فقط التي تضج بالأسر التي تعيش علي الرصيف، بل كوبري الجلاء ايضا، حيث تعيش اسرة كمال محمد عبد الدايم «45 سنه» وزوجته وأولاده الاربعة، اتخذ من بيع المثلجات مهنة له من خلال منزله الرصيفي، وعندما يصل دخله الي 15 جنيهاً في اليوم، يقبل يدها ظهرا وقلبا، لانه في ايام كثيره لا يحقق هذا الدخل، والذي لا يكفي في الواقع اسرته طعامهم فقط، فمال بال الملبس ومتطلبات الحياه الاخري . ويحكي كمال الدوافع التي جاءت به الي الرصيف فيقول : كنت اقيم واسرتي مع اخوتي في منزل صغير بالشرابيه، ولكن ضيق المنزل وتراكم الايجار علي، أدي لمشكلات كثيرة بيني وبين اخوتي، فتم طردي من المنزل، ولم اجد مكانا اخر يؤويني، سوي الرصيف، وكان منزلي الجديد هنا علي كوبري الجلاء . ويضيف كمال: قبل الثورة، تقدمت باكثر من طلب لمحافظة الجيزة للحصول عل شقة دون جدوي، بل كانوا يقومون بطردي من المحافظة، بجانب تعرضي للاعتداء من رجال الشرطه لطردي من فوق الرصيف، وعندما قامت الثورة، شعرت بالامل يتجدد في الحصول علي شقه، او حتي غرفه « تلم لحمي» من الطرقات، وتقدمت بطلبات اخري للمحافظه، ولم احصل علي اي رد، كما تقدمت بطلب للحصول علي ترخيص بإقامة كشك، أتكسب منه قوت اولادي، وانتظر ان ينفذ المسئولون وعودهم . وتكمل زوجته ناديه رشدي بقيه المأساة فتقول : انا مصابة بمرض الكبد، كما اعاني من ضغط مرتفع وحساسية بالصدر بسبب عوادم السيارات والنوم في العراء، ودخل زوجي البسيط لا يكفي اطعام الأولاد، فكيف له ان ينفق علي علاجي، ولا أجد من يعينني علي نفقات الدواء .. ولم تكد نادية تكمل قصتها مع المرض، حتي تناهت لنا صرخات الم صادره من طفلتها ذهب: جنبي، جنبي واجعني من كام يوم، ومش لاقيين ثمن الكشف عند اي دكتور التي تبلغ من العمر 12 عاما، لا تزال حتي تلك اللحظه تذهب للمدرسة، ولكنها لا تعرف أن كانت ظروف اسرتها ستمكنها من الاستمرار في التعليم، أم ستحرمها من تلك الفرصة الأخيرة في الحياة كما حرمت اخوتها من قبل، وتقول ذهب ان زملاءها بالمدرسة ينفرون منها ويعايرونها، لانها ابنة شوارع في نظرهم، بعد ان رآها بعضهم تعيش علي الرصيف مع اسرتها، وان ذلك يشعرها بالالم، وتخشي ان يتسبب ذلك في حرمانها من التعليم. اما حظ اخيها عبده الذي يكبرها بعام، فكان اسوأ، حيث خرج من المدرسه بسبب ظروف الأسرة، وفضل ان يساعد والده في العمل، وكذلك حال اخيه مصطفي 15 سنه، ويقول ان سبب خروجه من المدرسة، الضغوط التي مارسها المدرسون، للالتحاق بدروس التقوية، وعدم قدرة والده علي سداد التكلفة، وتبلغ 50 جنيها شهريا. ويشير مصطفي إلي ما تعرض له في قسم الدقي قبل الثورة قائلاً: القي احد الضباط ويدعي م. م القبض علي بتهمة التسول، وحرر لي محضرا، واستولي علي 300 جنيه كانت معي بالقوة، ولم يكتف بذلك، بل كلما صادفه في الشارع، يقوم بالقبض عليه مجددا، وضربه، ويجبره علي تنظيف غرف الحجز، بل ويقوم بتكبيلي «خلف خلاف» وربطي في قضبان الحجز، كما ان شرطة المرافق تطاردهم بصورة دائمة، وتقوم في كل مره بمصادرة «عدة الشاي»، ولا يجدون من يرأف بحالهم، او يعيد إليهم رأس مالهم «عدة الشاي» التي تعد مصدرا وحيدا لرزقهم الآن. وتستغيث الأم بكل المسئولين أن يساعدوا اسرتها في الحصول علي شقة وأن يمنحوا زوجها ترخيصا للحصول علي كشك يبيع به المثلجات، والا يتم مطاردتهم ومعاملتهم كمجرمين، لانهم لا يتمنون إلا لقمة العيش الحلال، والنوم مثل سائر خلق الله، خلف جدران تحميهم عيون الغرباء المتطفلين، وتقيهم شر البرد ولسعة شمس الصيف، إنها مطالب بسيطة، وحقوق آدمية طبيعية، فهل من مستجيب .