كلما يرحل أحد كبار المبدعين يطفو إلى أذهان الناس سؤال.. هل من مبدع شاب يستطيع أن يملأ فراغ من رحل؟ هل من أحد في جيل الشباب يمكنه أن يحمل أو بالبلدى «يشيل» الفن المصرى. نبدأ من الآخر منذ أيام رحل عن عالمنا الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى، ولأننا دائماً نفكر في البديل بعد رحيل الكبير، حاولنا أن نجد شاعراً يحمل مواصفات هذا الرجل لديه ماض كبير، ويمكنه أن يتواصل مع المستقبل لو قدر له الحياة فلم نجد، وهذا يعود لشىء واحد هو أن الأبنودى لم يكن سوى نفسه، لم يقلد أحداً، ولم يسرق أفكار أحد، ولم يكن يحب الشو الإعلامى. كان «نَفْسُه» منذ أن جاء من الصعيد مع أمل دنقل ويحيي الطاهر عبدالله، ولأنه كان «نَفْسُه» استطاع أن يضع «نَفْسُه» وسط الصف الأول لشعراء الأغنية، بل إنه استطاع أن يغير مفاهيم كبار المطربين عند اختيارهم للكلمة المغناة، بل إنه استطاع أن يغير مفاهيم كبار المطربين عند اختيارهم للكلمة المغناة، ففي الوقت الذي كان الكل يبحث عن الكلمة الرومانسية ذات المفردات المتداولة، جاء الأبنودى بلغة الطبيعة التي عاش فيها لتكون منهجاً جديداً تحول إلي موضة، فغنى حليم هذا الشكل، ولحن بليغ هذه المفردات الشعبية. ورغم ذلك كتب الأبنودى أيضاً كلمات تحمل قمة الرومانسية لعبدالحليم حافظ وهاني شاكر ومحمد منير وماجدة الرومي وعلي الحجار. وأخذت الدراما منه أشكالاً جديدة في كتابة الأغنية التي تترجم المشاهد. الآن مصر تمتلك عشرات الشعراء، وبعضهم يعتبر نفسه عمدة شعراء الأغنية رغم أن جميعهم لو وضعوا في سلة واحدة لن يكونوا جملة واحدة من جمل الأبنودى.. وهذه حقيقة. نحن الآن لا نملك من هو في حجم الأبنودى بالدرجة التي تجعلنا نقول إن مصر تواجه أزمة حقيقية في هذا الإطار.. من يمكنه الآن كتابة عمل غنائى يترجم أحد الأحداث السياسية التي يمر بها الوطن. وأبلغ دليل علي هذا أن الأبنودى ترجم الثورتين المصريتين في قصائد عندما يقرأها الأجيال القادمة ممن لم يعيشوا الثورتين سيجدون أنفسهم داخل الحدث. نترك الأبنودى ونعود للخلف إلي رحيل عمار الشريعى.. هل من ملحن ملأ الفراغ الذي تركه هذا الموسيقار الكبير الذي لم تكن موهبته متوقفة علي التلحين أو وضع الموسيقي التصويرية للدراما والسينما، لكنه كان تركيبة وخليطاً بين الموسيقي والفيلسوف، هو فنان كان يلتقي علي عتبة بيته أصحاب الأصوات الجادة من نوعية الحجار ومحمد الحلو وكبار الشعراء من نوعية الأبنودى. رحل «عمار» منذ عامين تاركاً خلفه فراغاً كبيراً لا يعوض. والآن المتواجدون علي الساحة من الملحنين مجموعة من أشباه الملحنين ينتظرون لحناً جديداً هنا أو هناك للسطو عليه ويقدمونه لنا في شكل أغنية منتهية الصلاحية وفاسدة. قبل رحيل «عمار» بعدة أشهر رحلت عن عالمنا مغنية الأوبرا والباحثة والناقدة ومقدمة البرامج وأمين عام مهرجان الموسيقي العربية الدكتورة رتيبة الحفنى تاركة خلفها فدادين من الفراغ، ولم يستطع أحد أن يملأ هذا الفراغ.. رتيبة الحفني أو الجنرال كما كانت تحب أن يطلق عليها كانت تعمل طوال الليل والنهار حتي يخرج المهرجان في أبهى صورة.. كانت تتابع المطربين وتتواصل مع الباحثين، وتبحث عن الجديد مع فريق عملها.. رحلت «رتيبة» وتركت خلفها عشرات الموظفين لم يستطيعوا أن يقدموا 50٪ مما كانت تفعله.. لأنها كانت أيضاً نفسها. بعد الدكتورة رتيبة الحفني رحل الإعلامي وجدي الحكيم وهو شبكة إذاعية متنقلة دائماً تجد المعلومة حاضرة عنده، ووسائل الاتصال بأى قامة فنية موجودة، ولم يظهر لنا بعد رحيله شخصية تقول إن هناك أملاً. بين رحيل رتيبة الحفني ورحيل الحكيم، رحل مخرج الباليه والأوبريت العالمي عبدالمنعم كامل. ولم نجد من يدخل ليحل محله، وحتي الآن مازالت أعماله تقدم علي خشبة مسرح الأوبرا في صورة باليهات وأوبرات. الفني المصري تحديداً أصبح يواجه أزمة حقيقية نشعر بها نحن المصريين هو أننا دائماً كنا نقود الأمة العربية في مجال الإبداع، وبالتالى عندما يرحل فنان نشعر بأزمة خاصة في مجالات التلحين والتأليف.. لأن الأجيال الجديدة لا يوجد بها أي بشائر، حتي لو وجدنا موهبة بينهم تجدها غير مكتملة النمو أو أن هناك قصوراً لديها في بعض المناطق.. نعم لدينا أصوات مهمة كثيرة حتي بين الشباب لكنها تحتاج للموجة، وهذا الدور غير موجود في أجيال الملحنين التي تنتمي لنفس الفئة العمرية.. موهبة آمال ماهر عندما تبحث عن ملحن في عمرها يمكنه أن يمنحها عملاً يناسب موهبتها لن تجد. وكذلك الأمر لباقي الأصوات حتي الكبيرة منها لو بحثت عن ملحن شاب يمنحهم أعمالاً لتجديد دماء أعمالهم لن يجدوا.. وهذه حقيقة ظاهرة ظهور الشمس.. رغم أن بعض الأصوات الكبيرة من الممكن أن تتجاهل ملحناً من الشباب لسبب أو لآخر لكن عندما تبحث بين هذا الجيل لن تخرج بملحن مبتكر.. هذه نظرة ليست تشاؤمية لكنها حقيقية نتذكرها كلما ذهبنا خلف مبدع لكي نواريه الثرى.