«يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف»..صدق من جعل من بعض الفقراء آية للمترفين في الدنيا يعطونهم درسا قاسيا في القناعة والرضا وما أكثر هؤلاء في مصر... علي بعد كيلومترات قليلة من قلب القاهرة..قطعنا أشواطا إلي ام هاشم التي اختار لها القدر ان تعيش في قرية ممهورة بالفقر والعدم وهي أطفيح التي يستهل مدخلها عشة تزكم الانوف برائحة الخوف من الغد ولكن عبير الصبر يفيض بداخلك الأمل ان الرضا هو الابقي والخوف ذاهب , تسللنا في شوارع مليئة بالقمامة وبيوت معدمة وحارات ضيقة تركنا السيارة بعيدة عن المنزل وتوجهت سيرا علي الاقدام من حارة الي حارة ومن زقاق الي آخر حتي وجدت نفسي أمام باب خشبي به فتحات ممكن كشف مابداخله طرقت المنزل في الرابعة والنصف عصرا فتحت لي سيدة اربعينية العمر ومددت بصري لأري خلفها زهروات تشب علي أطراف اقدامها لتري من الطارق وبابتسامة تثير الراحة وتعفو عنك مشقة الوصول والسفر الي قرية في آخر الدنيا استقبلتنا في منزلها الضيق. حصيرة وضعت في مدخل المنزل الذي لايتعدي المتر والنصف في نصف متر يغطيه سقف خشبي وتفصله ستارة سوداء وضعت بين غرفة اخري وضعت لتواري سوءة ماخلفها امتدت يدي لا لأكشفها حتي أري مساحة 2 متر وضع بها بوتاجاز بدائي وحوض للاطباق ومرحاض لا يحتوي الا علي المكان المخصص لقضاء حاجتهم مطوق بقوالب من الطوب الاحمر غير مكتمل البناء وملابس الاسرة المتناثرة في هذه المساحة الضيقة التي يغطي نصفها سقف خشبي في حين النصف الآخر عراه الزمن ليكون منهم للسماء. ظللت أبحث عن المكان الذي يشهد علي لحظات سكون الاسرة للنوم فوجدت غرفة ضيقة بها “حصيرة” ودولاب خشبي مكسور يعلوه تليفزيون اعياه الصمت وتحول الي قطعة ديكورية فقط بحثت عن سرير لم أجده بحثت عن دولاب فلا مكان له فها هو حال اسره تعيش علي ذكري والدهم وتكتفي بفقرها لتتلحف به في لياليها الظلماء الصامتة , فجلست في مدخل المنزل الذي هو مكان جلوسهم المستديم لنتبادل اطراف الحديث سويا. رحيل أبو محمد رحل أبو محمد في السيتينات من عمره بعد صراع مع المرض وبعد أن تشققت قدماه من الذهاب الي سوق الخضار ليكسب قوت ابنائه بالكاد ومنذ 6 سنوات قرر جسده النحيل الذي أضناه الفقر التنحي من هموم الدنيا ليترك الحمل الثقيل الي ام هاشم زوجته التي لم تعتد النزول الي سوق الخضار أو العمل إلا أن قسوة الحياة جعلتها من زوجة تعتمد علي سندها « زوجها « الي ام مكافحة لاتنام خوفا من الغد فبدأت تعتاد العمل بعد شده معاناته من المرض وفي أواخر عمره نزلت الي السوق لتبيع الخضار بدلا من زوجها المريض لتكفي علاجه وتعول أسرتها , ولم يكن الفقر مانعا أو جدارا منيعا يقف أمام أم هاشم في سبيل تعليم اولادها ولكن اختارت الكفاح لتصرف علي تعليمهم ليكونوا سندا لها. ملابسهم بسيطة للغاية وفي أجواء حارة تصبب فيها العرق وعلي حصيرة تركت آثارها علي اقدامنا وقطط تتراقص فوق المكان المكشوف بين مدخل المنزل ومكان تجمع فيه المطبخ والمرحاض جلست وسط أسرة أم هاشم فكانت علي يساري مبتسمة وعلي يسارها فتاة شقية صغيرة منار تبدو في الخامسة من عمرها وأخري خجول شقراء نحيلة البدن سلوي تبدو في السابعة الا انني عرفت انها بلغت 9 سنوات وعلي يميني جلست فتاة مبتسمة الوجه كأمها في الصف الثالث الاعدادي 14 عاما تخبئ شعرها بحجاب وبعد ان تعرفت عليهن رفعت اختهن الرابعة الستار لتخرج علينا مرتدية عباءة سوداء وحجابا اسود أيضا كانت متخوفة وصامتة في حديثها تسللت في خجل لتجلس امامي فهي فتاة في الصف الثاني الثانوي ولم تنته الاسرة عند هؤلاء فهناك محمد 10 سنوات اولي اعدادي الذي غاب عن المنزل حتي موعد الافطار وايمان المتزوجة منذ اربع سنوات. في الثالثه فجرا تستيقظ ام هاشم علي هاتف يناديها فتتسلل علي استحياء ناهضة من بين ابنائها في غرفتهم الوحيدة لتحضير سحور أطفالها فتهرول الي البوتاجاز لتحضير الفول وتسخين العيش البلدي الذي تقوم بخبزه في أفران القرية ليوفر لها جهد شراء الخبز من الافران , وتبدأ في ايقاظهم لتناول السحور وما ان تفرغ منه حتي يتوضأوا جميعا ليذهب محمد الصغير الي المسجد يصلي وبناتها يصلين في المنزل , وتبدأ هي في تحضير المشنة التي ستذهب بها الي تاجر الخضار لتاتي بالخضار وفي رحلة طويلة تبعد عن المنزل بامتار تجلس من الخامسة فجرا وحتي الرابعة او الخامسة عصرا لتحصل في اخر اليوم علي 15 او 20 جنيها تقبلها شاكرة الله علي ما اعطاها ويكون لسان حالها «أنا لقضائك راضية ولا حاجة لي إلا بك» فتعود بعد يوم حار الي المنزل تكون زهرواتها قد نظفن المنزل البسيط وتخلد الي النوم نحو ساعة لتنهض من جديد تحضر الافطار. متكئة علي الارض تجلس امام البوتاجاز لتطهو المكرونة التي لم تكتف ان تكون بمفردها فوضعت معها سلطة ومع مرور عقارب الساعة قبل رفع اذان المغرب تعرفت عليهم. قصتنا الاولي التي عشناها في السطور السابقه كانت مع ام هاشم نفسها التي لاتفارقها كلمة الحمد لله وربنا بيفرجها بعد مابتضيق وكلها ايام وبتعدي ..احلامها ان ولادها يكونون سعداء لا تشكو الفقر اطلاقا فهي تري انها افضل حالا من غيرها فاجأتني عندما قالت انا لا اعيش علي ما ياتي من خروجي للسوق فقط فانتظرت ان تخبرني بان هناك راتبا او معاشا ثابتا او ما الي ذلك وكان السند التي بالغت في وصفه هو مبلغ 100 جنيه معاش ضمان اجتماعي ادهشتني انها تدخر منه لتعليم الاولاد , وجبات الاسره هي باذنجان وسبانخ ومكرونة وبطاطس وفي رمضان يكون حظهم أوفر في تناول اللحوم فتكون مرة كل يوم أحد فتكون دجاج غالبا لأن اللحوم باهظة الثمن . وعن ملابسهم قالت أم هاشم « ربنا بيفرجها ودائما ما اشتري لهم الملابس من سوق البلد فهي علي قدر حالنا فنحن نعيش بحسب ماكتب لنا الله ولا نعرف الطمع «. حكاية البنت إيمان وعن قصة تزويجها لاحدي بناتها ساعدها فيها أهل الخير في القرية واستطاعت ايمان البنت الكبري لها ان تعمل في مستشفي ب100 جنيه أخري ليكون هناك 200 جنيه و100 مساعدات من المسجد للفقراء ف300 جنيه هي رأس مال أسرة مكونة من 6 أطفال ووالدتهم تسعي لتعليمهم جميعا وزواج واحدة, وأراد الله أن يستر بناتها فنجحت في اتمام الزواج لتترك هما من علي كتفها وتتفرغ للتعليم فقط. حاولت أن أضغط عليها لاعرف ماتريده من الدنيا فما كان لها ارادة غير الستر تكتمت علي مامرت به من اوجاع بعد فراق زوجها الا انها مع الحاحي علي كسر صمت الاسرة جميعها وفي لحظة شرود من أم هاشم عرفت انها شأنها شأن أي امرأة تريد سندا لها يتعبها رحيل زوجها تفتقد جلوس والدهم علي مائدة الافطار ومناسبات كثيرة كالعيد ودخول المدارس « كنت محتاجة في وسطنا يشيل عني الهم بس احمد ربنا ماضاقت الا مافرجت وربنا بيكرم وبيصبرنا « جملة كررتها أم هاشم اكثر من 20 مرة خلال ساعتين ..تتبارك بأهلها وحب جيرانها لها لاتتمني اي شئ لا منزل أوسع ولا سرير تريح عليه جوانبها من مشقة اليوم الذي لاتنام فيه سوي ساعات معدودة ..لا تحمل أوجاعها لحكومة أو أي أحد فهي تري انه ابتلاء والشكوي منه سقوط في الاختبار الذي فرضه الله عليها لم تصل اليها الثورة فهي لاتهتم بالأحداث ولم تشاهد مبارك لتشمت فيمن أوحل بلده في الفقر. ومثلما تعيش أم هاشم علي ذكري زوجها وراضية الحال ليس لها أمنيات فتعلمت من بناتها وعلي رأسهن الأخت الثانية ثناء الصف الثاني الثانوي فرحت كثيرا وتعجبت انها كانت الثانية علي المدرسة في المرحلة الأولي ب95٫5% , اعتمدت علي كتب خارجية في مذاكرتها ساعدها في شرائها بعض الأقارب والأم , دروسها هي عبارة عن مجموعة تقوية مدعمة بالمدرسة ب20 او 30 جنيها بها جميع المواد الدراسية, وساعدها في التفوق عشقها للتعليم والمذاكرة تفتخر بها اسرتها وتضعها في مكانة عالية وتحكي عن أوضاعهم التي لا تستطيع أن تواريها لتحاول ان تجمل صورة فقر، تتحدث عن نفسها متعففة في حياتها , تري أن الدنيا لم تحرمها من اي شئ سوي والدها الذي كان هو عامود الاسرة , في نظرتها خوف من المستقبل خوف الا تستكمل كليتها لضيق حالتهم . «مش ببص لحاجة مش في ايدي» بهذه الجملة التي تحمل كل معاني الاخلاق لخصت ثناء شخصيتها لانتقل الي زينة المتفوقة ايضا في الصف الثالث الاعدادي فحصلت علي 260 درجة ولكني لم أسعد بهذا لأن أم هاشم فاجأتني انها انتهت عند هذا الحد من التعليم ومكانها هو المنزل في الفترة القادمة لتقليل النفقات ولتساعد الأسرة في حملها الثقيل وتعين الأم علي مرارة لقمة العيش « مش مضايقة اني هقعد في البيت مادمت هساعد اخواتي هي الحياة كده محتاجة مننا نضحي عشان بعض» هذه عبارة أوصدت بها زينة الباب أمام أي أسئلة عن قرار العائلة في تركها للمدرسة. تدخلت أم هاشم في الحوار « لا أريد أن أمد يدي لاحد ونحن علي باب الله ومحتاجة حد يساعدني والمصاريف تقلت والدنيا غالية ولدينا أطفال سيلتحقون بالمدارس السنوات القادمة» فتعجبت ولم أنطق أمام أسرة تخوفت أن ينفرط عقد محافظتهم علي التعليم اولا . وبابتسامة بريئة من منار لاحظت سعادتها الممهورة بالشفقة علي أختها لأنها ستضحي من أجل تعليم الصغري التي ستلتحق بالصف الأول الابتدائي العام المقبل وهي الحكاية الصغري الرابعة. لاجد النحيلة الصامتة تجلس مترقبة حديثنا سلوي في الصف الرابع الابتدائي تحذو حذو أختها الكبري ثناء تحاول أن تكون مثلها فطابعهما بالفعل واحد ارتسمت علي وجنتهن الخجل والتعفف صامتة هي الأخري. ومع دقات الساعة وتحولها فاجأنا المؤذن بموعد الافطار فتسارعت الفتيات الي مساعدة والدتهن لوضع المائدة ..صينية صغيرة عليها 6 معالق وطبق كبير للمكرونة وآخر للسلطة وكوب ماء لم يجد مكانا له فتم ادخاله، جلسنا في ابتسامات معا والباب يطرق ليدخل علينا محمد طفل في العاشرة من عمره مقبل علي المرحلة الاعدادية جلس بجوار أمه وتعرف علينا وعلي المائدة حكي لي قصته هو الآخر فرغم صغر سنه يعمل نجار مسلح يساعد في البناء وليس هذا بشكل مستديم فتكون في فترة الاجازات فقط آخر العام ونصفه ويكون وقت العمل من الصباح وحتي المغرب الا أن شهر رمضان يتوقف فيه العمل وتصل يومية محمد 15 جنيها لاينال منها شيئا لانها تدخل في نفقات الاسرة .. بدا عليه انه لايهوي التعليم كاخواته البنات فهو يحلم ان يستمر في شغلته الشاقة التي تصعب علي بدنه النحيل توفيرا لاسرته ومعينا لهم. وانقضي وقت الطعام وهرولت البنات في حمل الأطباق الي المطبخ ليعودوا الي أحاديثهم معي في مدخل منزلهم ليتذكروا والدهم الذي كان يجلس معهم في نفس المكان واحتضنتهم الجدران لسنوات,سرقني الوقت فانصرفت مودعة الاسرة وهم يرحبون بافطاري معهم , ليعودوا الي داخل منزلهم للتوضؤ والخروج الي صلاة العشاء والتراويح في المسجد المجاور للمنزل وينتهي يومهم عند العودة للخلود الي النوم وتحتضنهم الحصيرة جميعا ليضع فوقها 6 رءوس تحمل افكارا تنتظر بريق امل لعله يأتي في غد جديد. شاهد الفيديو