كان التعليم منذ نعومة أظافره خطا أحمر.. في المنزل والمدرسة ومتناغم يعود علي الطالب بالنفع ويعلمه المسئولية حيث احترام مواعيد المدرسة ومواعيد المذاكرة في المنزل وكذلك احترام الإجازات الأسبوعية وآخر العام والأهم هو المدرس المحترم الذي يتسم بعزة النفس والضمير. بورسعيد كانت.. كانت مدينة النور والبهجة تعليم فن ثقافة رياضة.. تصور كان عندنا 21 دار سينما ومسرح مصرية وأجنبية يقدم فيها الأفلام العالمية في نفس موعد تقديمها في أوروبا ودول العالم وكذلك الأفلام المصرية فقط رائدة السينما في الشرق الأوسط.. أما الآن فحدث ولا حرج. سينما ومسرح ومكتبات وندوات وحفلات ونواد.. تذكرت، تصوروا حضرت حفل أم كلثوم في بورسعيد وكان عمري لا يتعدي 11 عاما وكان ملعب النادي المصري أعد علي أكمل وجه كأنه قاعة مغلقة 5 نجوم وأصر والدي رحمه الله علي أن أصحبه أمام رفض والدتي رحمها الله ولكنه كعادته نفذ كلامه، وارتديت البدلة الشورت المنتشرة في ذلك الوقت مع الكرافت، آخر شياكة وكانت أغنية «يا ظالمني» تشدو بها لأول مرة وأنا في ذهول مما يدور حولي من إعجاب وموسيقي وعرفت يومها عظمة عازف الكونترباص. كان لقاء عبقريا زرع في عقلي الباطن صوت أم كلثوم ونغمات الموسيقي الراقية المحترمة وعرفت معني الأوركسترا والصمت الرهيب وحسن الإنصات والتصفيق الحاد واحترام دقات المسرح التقليدية. اختلط ذلك علي طول الأيام والليالي مع عشقي لسماع الراديو وبرامجه الشيقة وكان كثيرا ما نتناحر أنا وأخي سامي علي نوعية ما نسمعه من أغان أو حوارات.. المهم أن هذه العبقرية شملت عبقرية حضور عبدالناصر الي بورسعيد في يوم مولدي 23 ديسمبر عيد النصر والاحتفالات الأسطورية والمواكب والغناء والرقص ومهرجانات الجيش والشرطة والمدارس وعربات الزهور.. كل ده تبلور في عقلي الباطن وجعلني أعشق كباقي المصريين هذا الصوت الرخيم القوي الذي يخاطب القلوب ولا يخاطب العقول واتضح لي بعد ذلك خيوط المؤامرة التي أطاحت بمصر وعبقرية المكان ودمرت الإنسان المصري الطيب. زخم علمي وفني وسينما ومسرح وغناء وموسيقي التي ولدت بين أحضانها.. تصور بلكونة منزلي تطل علي حديقة الباشا الشهيرة التي دمرت بفعل الجهل والبيروقراطية وعديمي الإحساس بالجمال.. حيث كان يتوسطها كشك الموسيقي حيث فرقة موسيقي الشرطة تحضر صباح كل أحد وجمعة لتعزف لرواد الحديقة أعذب الألحان ما يقرب من 4 ساعات مزيكا في مزيكا وأنا إما في الشرفة أو جالس بجوار الكشك أرتشف من نغمات الآلات النحاسية الجميلة والقربة الأسكتلندية.. والله ما حد يعرفها الآن!! كل هذا كان يحدث منذ أن كنت أحبو حتي حدث العدوان الثلاثي في 1956.. كارثة عبدالناصر الأولي عسكريا.. بعد أن خربت الدنيا وهدموا كل ما كان جميلا يصنعه مصريون عباقرة وأجانب يعرفون كيف يعيشون ويستمتعون بالحياة وكيف يعملون.. دمروا كل ما هو جميل في مصر كلها. مثلا جاء محافظ مصطفي صادق عين من هنا وسافر علي حساب المنصب الي أمريكا ما يقرب من 6 شهور لإجراء عمليات.. مال سايب وأصدر فرمانا بهدم سور الميناء العظيم الذي يربط من أول المعدية في شارع السلطان حسين حتي تمثال ديليسبس المرفوع من علي قاعدته وملقي في مخازن هيئة القناة بدون سبب سور الميناء العتيق عمره يناهز عمر افتتاح القناة.. سور حديدي أسود قان مشغول بفن زخرفي نادر.. تحفة فنية بارتفاع حوالي 3 أمتار.. كنا من خلاله نري بانوراما قناة السويس والسفن العابرة ونتلمس بوجوهنا نسمة عليلة من هواء بحر نظيف ينعش الروح والوجدان.. ألوان ومناظر وطيور وسفن ورجال ونساء وملابس بألوان زاهية وحوارات راقية ممتعة.. جمال في جمال أعود بعدها الي منزلي كأنني خرجت من بانيو مملوء بالماء المعطر.. إيه ده؟ خربتوا مصر!! ربنا ينتقم منكم يا حكام الديكتاتورية ورجال أهل الثقة ونظام تسييس كل شيء حتي ولو علي حساب حياة الإنسان ورفاهيته حتي فقد قوت يومه وتاه بين طرقات العشوائيات. ضاعت مصر المحروسة حيث كانت القاهرة في يوم من الأيام أنظف وأجمل مدينة في العالم.. ده تاريخ مسجل.. وأصبح المصري بطل ثورة 1919 جاهلا ومتخلفا ولا يجد غذاءه ولا غذاء عقله.. تحول الي مسخ يتصارع علي الفساد ويسير علي قدمين ملوثتين بالتخلف ودماء الأبرياء نتيجة دخوله حروبا عنترية ليس له فيها لا ناقة ولا جمل. عزيزي القارئ.. مصر العظيمة سقطت من الزمن ستين عاما، وضافت عنق الزجاجة ويحتضر الشعب المصري داخل الزجاجة فهل ممكن أن نبدأ من جديد لنعبر عنق الزجاجة؟! والله نحن نراقب وننتظر!! وعودا واجتماعات وقرارات!! ولكني بصراحة بكل ما أراه أحتاج لدليل واحد يعطيني الأمل. المنسق العام لحزب الوفد