بلادنا أغرقتها جمهورية يوليو في مستنقع سياسات الهوية حديث القرضاوي عن احتفال المسلمين بأعياد ميلاد السيد المسيح من 25 ديسمبر للسابع من يناير له مستويان: مستوى أيديولوجي ومستوى تطبيقي. وفي الحالين فالرجل يبسط الأمور لدرجة التسطيح. على المستوى الأيديولوجي فهو يصدر عن اعتناق لما يسمى سياسات الهوية Identity Politics تلك التي تصنف الناس على أساس دياناتهم ومذاهبهم وتقاليدهم. وهي القوة المحركة لكل ما نشهده في العالم المعاصر من مذابح وتخريب وترويع ،سواء في منطقتنا حيث نعرف جميعا ما ترتكبه ذئبان السلفية المسلحة من مذابح ،أو في أوروبا التي تتخذ كراهيتها للأغراب شكل سياسات معادية للهجرة والمهاجرين ،إلى أمريكا حيث تعود العنصرية لتطل برأسها بعد أن ظننا أنها دفنت مع انتخاب أول رئيس أسود لأمريكا. وبعد أن تكرر إطلاق ضباط شرطة بيض رصاص مسدساتهم على صبية سود تذكرت ما قاله أوجي سيمبسون الرياضي الأسود الذي اتهم بقتل زوجته البيضاء: «كل ما في أمريكا يدور حول اللون». وأنا مُصرّ على أن سياسات الهوية ،بكل آثامها ،هي اختراع بروتستانتي ،أمريكي/بريطاني بالأساس ،وله طبعة هولندية وطبعة ألمانية. وقد وجدت سياسات الهوية لنفسها مكانا –على استحياء- في فرنسا العلمانية العقل الكاثوليكية القلب بتأثير الاشتراكيين المعروفين بصلاتهم الوثيقة مع الصهيونية ،لكني لا أزال أذكر ،بكل تقدير ،عبارة الرئيس الفرنسي الاشتراكي فرانسوا ميتران للمهاجرين المقيمين في فرنسا(وكنت منهم لأكثر من عام):أيها السيدات والسادة ،ما دمتم في فرنسا فأنتم في بيتكمVousêtes en France , vousêtes chez vous . ثم جاء ساركوزي –هدية معمر القذافي لقصر الإليزيه - ليحول سياسات الهوية إلى جزء من العقل الفرنسي المعاصر.وكذلك انتقلت سياسات الهوية إلى بلدان كاثوليكية مثل إيطاليا وإسبانيا تحت تأثير أجهزة الاتحاد الأوروبي في بروكسيل، وهذه الأجهزة أداة الضغط الأمريكي/البريطاني/الألماني/الهولندي على دول أوروبا. أما بلادنا فقد أغرقتها جمهورية يوليو في مستنقع سياسات الهوية. وأظن معظم المصريين اليوم نادمين على خلو بلادنا من اليونانيين والطليان واليهود المتوطنين وعلى انتشار مرض كراهية الأجانبxenophobia . لكن لابد أن نتذكر أن مذبحة الاسكندرية في 1882والمحاكم المختلطة وامتيازات الجاليات الأجنبية والهيمنة البريطانية على القرار السياسي المصري لزمن طويل ،كل هذه الأمور لها علاقة بظهور هذا الفيروس في مصر وتوطنه. ولا أنسى ما قاله لي الزعيم الشيوعي المصري مارسيل إسرائيل (مؤسس الرابطة اليهودية لمناهضة الصهيونية الذي غير لقبه من إسرائيل إلى تشيريزي)والذي أشارك صديقي محمود الورداني الاعتزاز به ،من أنه قابل في أوروبا يهوديا مصريا من معارفه الذين خرجوا من مصر بعد 1956 فقال له ذلك الرجل :تصور يا مارسيل أن كل الناس في شارع سليمان باشا اليوم يتكلمون العربية ؟ لقد انتشرت بيننا أمراض الهوية لأننا عشنا طويلا غرباء في بلادنا.هذا هو السبب لا المبرر فالمرض لا مبرر له ،بل نحدد سببه عسى أن نتمكن من الشفاء منه. تأسست سياسات الهوية ،عالميا ومصريا ،بأمل أن تتيح لنا التهرب من الصراعات الطبقية التي روجت لها الماركسية.والقاهرة نافست برمنجهام في الدعاية لسياسات الهوية في الستينات.لكن إذا كانت الماركسية قد لخصت الإنسان في المصالح المادية ،فسياسات الهوية فجرت العنف بقوة العنصرية والطائفية والمذهبية. سياسات الهوية هي تأصيل نظري للحرب اللندنية على ثورة باريس العظمى في 1789 ،فباريس أسست دولة المواطنين التي تقوم على الحرية والإخاء والمساواة ،ولندن (ووريثتها واشنطن) تفككان الدولة الوطنية باسم العولمة.وهذا هو الأساس الذي يقوم عليه المشروع الإخواني في مرحلته الراهنة ونلخصه في التالي:تأسيس كيان دولي بضغط من عواصم القرار على حطام الدول ذات الأغلبية المسلمة بعد تفتيتها ،فتقسم دولة العراق ،مثلا،إلى خمسة وسبعين وحدة محلية مستقلة تمام الاستقلال ولا تكون بغداد سوى واحدة منها. وتقسم سوريا إلى عدد أقل قليلا من الوحدات. وبعد ذلك تخضع الدول ذات الأغلبية المسلمة(حسب تعبير طارق رمضان في الكتاب الذي ترجمته له ولم ينشر بعد) لإشراف مظلة غير محكمة تسمى الخلافة الإسلامية قد يكون مقرها في اسطنبول ،وتبعيتها للتحالف الأطلسي مؤكدة. ويدير هذا المشروع رجال مثل محمد الإبياري في أمريكاوإبراهيم منير في بريطانيا وطارق رمضان في سويسرا ويوسف ندا في لوغانو (بين سويسراوإيطاليا)ويوسف القرضاوي في قطر. هذا هو الأساس الأيديولوجي لموقف القرضاوي من الكريسماس. أما على المستوى التطبيقي فهو يقول كلاما مضحكا مثل:كيف نحتفل بميلاد عيسى ولا نحتفل بميلاد محمد؟ فهل هناك فارق؟ كلاهما نبي عظيم وليس أحدهما أقرب إلى قلب المؤمن من الآخر،فالقرآن يقول «لا نفرق بين أحد من رسله».هل يجد هو غضاضة في أن القرآن يذكر عيسى أكثر مما يذكر محمدا؟ ثم هو يشكك في تاريخ ميلاد عيسى رغم اعترافه في خطبته بأن تاريخ ميلاد محمد غير متفق عليه.لكنه بالتأكيد لايدرك عالمية الكريسماس باعتباره ،في الأصل ،احتفالا وثنيا يقال له باللاتينيةDies Natalis Solis Invect أي «يوم مولد الشمس التي لاتقهر» ثم جرى تنصير العيد عندما جعله كُتّاب المسيحية يوم ميلاد المسيح الذي هو «شمس الصلاح».لكن المؤكد أن الكريسماس اليوم عيد كل الشعوب وكل الديانات. وما كان وثنيا ثم مسيحيا هو اليوم إنساني. صحيح أن الرأسمالية الاستهلاكية طبعت كل مناسباتنا بطابعها ،يستوي في ذلك العيد المسلم أو المسيحي أو اليهودي أو البهائي أو البوذي أو غير ذلك. لكني لم أجد في خطبة القرضاوي علامة انزعاج من الطابع الاستهلاكي للعيد، وهذا مفهوم فديانة الإخوان المسلمين استهلاكية وإن كانت عولميتها التجارية عاجزة عن استيعاب مفهومات الأخوة الإنسانية. كيف تقوم تجارة – أو تبادل سلمي- بدون أخوة إنسانية؟ لا أعرف.