خلق الله الإنسان واختاره لحمل أمانته، تلك الأمانة التى عُرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان فأصبح سيداً لهذا الكون، الذى فضله فيه ربه على كثير ممن خلق تفضيلاً. وجعل الله العقل هو شرط المسئولية والمحاسبة، فالنبى الكريم يقول: «رفع القلم عن ثلاثة، الصغير حتى يكبر، والنائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يعقل»، ورفع القلم عن هؤلاء أى رفع الحساب والمسئولية عنهم فى هذه الحالات، فالصغير لا يميز بعقله، والنائم متوقف عقله، والمجنون لا يعى فعله، فهم غير مسئولين عن أفعالهم وأقوالهم فى هذه الحالات لأن العقل وحده هو مناط المسئولية. ولأن العقل حاز هذا التكريم وذاك التشريف، ولأنه مناط التكليف فقد أمر الله الإنسان بإعمال هذا العقل والتفكير فى خلق الله والغاية من وجود الكون والإنسان، والمصير الذى ينتظر ذاك الإنسان بعد موته، فلا تخلو سورة من سور القرآن الحكيم إلا وهى تأمر بإعمال العقل وتحث على التفكير وتعتبره فريضة أساسية للوجود الإنسانى، إذ لا تكليف بالفرائض الخمس إلا بعد توافر العقل، ومن هنا كان العقل هو القاعدة الأساسية التى يقوم عليها أى تكليف. ويستنهض القرآن الكريم كل عزيمة ممكنة لإعمال هذا العقل، ويسلك إليه كل طريق، فيقول ربنا فى العديد من آيات الذكر الحكيم «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ»، «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ»، «إن فى ذلك لآيات لأولى الألباب»، «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى»، ثم يتساءل مستنكراً على أرباب العقول تغييب عقولهم «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ»، «أَفَلَا يَتَفَكَّرُونَ»، «أَفَلَا يَعْقِلُونَ»، فى دلالة بليغة وحكمة بالغة بأن العقل هو سر الإيمان بالله، فالله عندما يعرض عليك دلائل الإيمان لا يعرضها على قلبك قبل عقلك، بل يعرضها على العقل أولاً ليلتقط منها ما يشاء من مشاهد إعجازية، وللقرآن العديد من هذه المواقف وأشباهها «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَات ِوَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّر ِبَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْم ٍيَعْقِلُونَ» (البقرة 164). القرآن هنا يخاطب العقل لا القلب، يقول لك دع عقلك يفكر، وسيره ليلتقط تلك المشاهد، السماوات المرتفعة بلا أعمدة، والأرض المنبطحة بلا حدود، وتعاقب الليل والنهار، وقدرة الماء الرقيق السائل على حمل السفن العملاقة، ثم ذاك المطر الذى يهبط على الصحراء فيجعلها واحة خضراء، وحركة الرياح التى تحمل السحب المسخرة بين السماء والأرض، ألا يقبل العقل كل هذه الأدلة على وجود الله. من هنا كان العقل دليلا إلى الإيمان، وعندما سُئل الإمام على أى الأمرين أعظم نعمة، الإسلام أم العقل، فأجاب بغير تردد، العقل أعظم، فتعجب الجالسون وقالوا كيف يا أبا الحسن، فقال بالعقل اهتدينا إلى الإسلام ولولا العقل ما أسلمنا ولا كُلفنا « وفى هذا المعنى تجد الكثير فى القرآن الكريم كلما مررت بين حدائقه الغّناء، ففى جميع سوره وآياته تجد خطاباً موجهاً للعقل، وكأن الله يريد أن يقول للجميع « بدون العقل لا تفكير وبدون التفكير لا حياة» .. فالعقل هو دليل الإيمان، ويكفى فى ذلك أن تعرف أن المشركين يوم القيامة يعترفون بأنهم كانوا بلا عقول، لأنهم لو كانت لديهم عقول لآمنوا وَقَالُوا «لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ {10} فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِير»ِ فأرجعوا كفرهم وضلالهم إلى فساد عقولهم. والعقل ضد الهوى وليس ضد العاطفة، فالعاطفة إحساس دافئ فيه رحمة وتراحم أمر الله بهما، ولكن الهوى شيء ممقوت للنفس، فالهوى هو أن تحكم لصالحك، أو أن تحكم لمكيدة فى نفسك، ومن هنا يحذر القرآن من الهوى، حتى الأنبياء حذرهم منه «يَا داودُ إِنَّا جَعَلْنَاك َخَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ» أى لا تتبع هوى نفسك فتحكم لهذا ضد هذا على غير مراد الله، وهى القاعدة الأصيلة التى يجليها القرآن مراراً وتكراراً، ذلك أن اتباع الهوى مناف لمقصود الشرع فى إعمال العقل واتفاق الحق، لذلك جاء التحذير الإلهى للنبى الكريم من اتباع الهوى، أهواء قوم ضلوا عن سبيل الله أى لتتبع سبيل عقلك يا رسول الله، ولا تتبع أهواء هؤلاء، ودعهم وما يفعلون، فالحكم كله فى النهاية لله، والأمر كله إليه منتهاه. إن الدين الإسلامى جاء ديناً عقلياً، يخاطب العقل بالأساس، فلم يعد الناس بالفردوس المنشود دون عمل، أو دون تدبر، أو دون تعقل، ولم يعدهم بالجنة سدى، بل أمرهم بالإيمان ومباشرة هذا الإيمان لشغاف القلوب، ويقين العقل بهذا الإيمان، ومن ثم جاء الدين دافعاً إلى التفكير وحاثاً على إعمال العقل باعتباره مناط التكليف وسر التكريم، فبدون العقل لا تكليف، وبدون العقل لا تشريف. بل إن شرف الإنسان يزداد كلما ازداد عقله، فيرتقى إلى مراتب الحكماء ومنابع الحكمة.