ما كان لحزب الوفد إلا أن يتخذ قراره بخوض الانتخابات البرلمانية المقبلة، استناداً إلي جملة من القواعد الراسخة في العقيدة الوطنية الوفدية، جميعها تعلي من شأن المسئولية الوطنية التي يتحملها الوفد، بوصفه أعرق المؤسسات السياسية علي الساحة، الأمر الذي يؤكد صدق وعزم الوفد علي المضي قدماً نحو أداء واجبه الوطني الذي طالما تحمل في سبيله عنت وصلف الأنظمة الحاكمة التي لم تدفع يوماً باتجاه تحقيق متطلبات حياة ديمقراطية حقيقية. والواقع أن الأمر علي هذا النحو لا ينفي، ولا يقلل من جملة المحاذير التي حرص الوفد علي التأكيد علي خطورتها، وتداعياتها السلبية علي مسيرة الركب الثوري، إذا ما نجحت الأنظمة الفاسدة التي أسقطتها الثورة المصرية من العودة بموجبها إلي قاعة البرلمان، ومن ثم إلي المشهد السياسي. فليس في الانسحاب من الصراع الانتخابي إلا ما يدعم الخطاب الصادر عن أعداء الإرادة الشعبية الحرة التي جسدتها ثورة الثلاثين من يونيو، وهو خطاب إخواني لطالما زعم وجود انشقاقات داخل الصف الوطني، وأشار دون وعي سياسي، إلي فشل خارطة المستقبل، باعتبارها مؤامرة «نخبوية»، وليس ذلك أيضاً ببعيد عن بقايا وشتات نظام مبارك، وقد تجمع وراء رغبة محمومة لعل العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة التي راهنت الإرادة الشعبية الثورية علي إعلاء قيمتها. من جهة أخرى، وفي إطار ثورة شعبية عظيمة، ما زالت مبادئها دليلاً هادياً لمجمل العمل الوطني، وإن شابه بعض التراخي في مواجهة أعداء الثورة، فإن حزب الوفد ليس له أن يكرر خطوته التاريخية التي شكلت المعول الرئيس في «انكشاف» شرعية نظام مبارك، حين انسحب الوفد من آخر انتخابات برلمانية في عهده، كما ليس للوفد أن يعيد مقاطعته للعمل البرلماني، مثلما فعل إزاء قرار الرئيس المعزول محمد مرسي بعودة البرلمان، وهو ما رأي الوفد عندئذ أنه يهدم احترام وسيادة القانون، فألزم أبناءه بعدم العودة إلي مقاعدهم البرلمانية، والأمر علي هذا النحو يؤكد أن مقاعد البرلمان ليست مغنماً وفدياً، قدر ما هي مسئولية وأمانة، لا يليق بالوفد، ومبادئه وثوابته التاريخية، أن تُبني علي غير أسس شرعية. غير أن حرصاً واجباً علي نجاح حقيقي للاستحقاق الثالث من خارطة مستقبل الثورة المصرية، يدفع بنا باتجاه المزيد من الجهود المخلصة سعياً وراء تنقية الأجواء، وتصحيح العديد من الرؤى المغلوطة التي ربما تصلح مرتكزاً لتبريرات غير مقبولة، يري البعض فيها مجالاً لاستيعاب عودة أعداء الثورة إلي المشهد السياسي. وفي هذا السياق، لا ينبغي أن ينشب أدني خلاف حول صدق مرجعية ثورة يناير، وكونها الثورة الأم التي أفرزت ثورة يونيو؛ ومن ثم فليس في معاداة ثورة يناير، إلا شبهة الانتماء إلي نظام مبارك المستبد، مثلما مهاجمة ثورة يونيو لا تنبع إلا من فكر إخواني متطرف، وفي الحالتين نحن أمام محاولات لإهدار الإرادة الشعبية الحرة التي شهد لها العالم في انبهار يؤكد أحقية الشعب المصري في تاريخه المجيد الذي حمل خلاله مشعل الحضارة الإنسانية. وعلي ذلك فإن اقتحام قاعة البرلمان «الثوري»، من جانب أعداء الثورة، من أتباع مبارك وبديع علي السواء، لا يمكن أن يعبر بأي حال من الأحوال عن نجاح خارطة المستقبل في بلوغ أهدافها، باعتبارها وسيلة وليست هدفاً في حد ذاتها؛ فليست الانتخابات البرلمانية إلا أداة ووسيلة لتجسيد الإرادة الشعبية الحرة، وهي بالقطع إرادة ثورية بحكم ثورتي يناير ويونيو. ولا ينفي ذلك مسئولية الناخب أمام صندوق الاقتراع، غير أنها مسئولية مشتركة، ما كان ينبغي أن تتخفف النخبة السياسية من عبئها وتلقيها كاملة علي عاتق الناخب المهموم بالكثير من تداعيات فعاليات الشارع السياسي، فضلاً عن تفاصيل حياته اليومية، والذي خاض حروباً إعلامية وجد نفسه مُكرهاً عليها، بفعل هجمات أبناء نظام مبارك، حيث خاضها أعداء الثورة بتسليح مكثف، و«دعم» لم ينتبه إلي خطورة العودة إلي ما قبل ثورة يناير، ما هيأ لأبناء نظام مبارك سُبلاً متنوعة للتغلب علي ما أفرزته الثورة المصرية من قيم كان ينبغي أن تطيح بهم بعيداً عن السباق البرلماني، دون الارتكان كثيراً إلي «ممرات» ديمقراطية آمنة، لطالما عطلتها الأنظمة الفاسدة، لمبارك وبديع، عن أداء دورها الطبيعي في إرساء أسس الحياة الديمقراطية المتعارف عليها في المجتمعات المتحضرة. لتكن الانتخابات البرلمانية المقبلة، المعركة الأخيرة التي تخوضها الملايين الثائرة ضد أعدائها، فليس التاريخ يذكر حزباً فاسداً هزم شعباً ثائراً ... ولا شعباً استرد ثورته ليعيدها إلي سيرتها الأولي سيئة الذكر ... ولا ثورة تتكرر سرقتها وأصحابها في يقظة من أمرهم. «الوفد»