في سياق ما يمر به الوطن من مرحلة انتقالية استثنائية، تقتضي الحكمة عدم اللجوء إلي المواقف الحادة، والرؤى القاطعة، رغم ثورية منطقها؛ ذلك أن السمات الغالبة لعملية التحول الديمقراطي التي يعيشها الوطن، لا تخلو من حالة عدم اليقين، وما تقتضيه من فحص ودرس لمختلف مكونات وخطوات العملية السياسية، في طياتها تختمر العملية الديمقراطية، شأنها شأن الثورات الشعبية كعمل تراكمي منحاز، يحتاج إلي فترة اختمار قبل بزوغ فجره. وانطلاقاً من تلك الرؤية، كانت مواصلة الوفد جهوده نحو المضي قدماً صوب إنجاز الاستحقاق الأخير لخارطة المستقبل، المتمثل في الانتخابات البرلمانية، مع ما للوفد، من تحفظات ومحاذير تستند إلي ما يختزنه الوفد من خبرات متراكمة تُنبئ بما لا يتفق ومبادئ الثورة الشعبية التي أفرزت خارطة المستقبل. فلا شك أن ما تتيحه المرحلة الانتقالية من فرص أمام أعداء الثورة، هو أمر لم يكن ممكناً التخلص منه علي نحو تام، وإن كان متاحاً، بحرص أكبر، وجهد أوفر، أن نقلصه إلي حدوده الدنيا، بما لا يجعل من أبناء وأعداء الثورة علي قدم المساواة، علي أحسن تقدير، إن لم تكن الأدوات المملوكة لأعداء الثورة باتت راجحة، فيما يتعلق بالخطوة الثالثة من استحقاقات خارطة المستقبل، وهو ما كان محل مسئولية قانون انتخابات مجلس النواب، فضلاً عن البيئة السياسية المحيطة به والداعمة لأعداء الثورة. وتلك مسئولية، ما كان ينبغي التخفف منها بمزاعم لا تتصل بجوهر الثورة ومبادئها، ولا تتبني أهدافها؛ فليس إلا تراجع خطوات الثورة، إذا ما فشل أبناء الثورة المصرية، ثورة يناير الأم، وامتدادها التصحيحي في الثلاثين من يونية، في تشكيل أغلبية برلمانية، تنهض بثورة تشريعية، تستند إلي ما جاء في الدستور الجديد من مبادئ إنسانية لاقت رواجاً في مختلف المجتمعات الديمقراطية، وكان إقرارها في الدستور الجديد، شهادة ميلاد، أقرتها الأسرة الدولية، تشير إلي أن مصر باتت علي الطريق الصحيح باتجاه إرساء قواعد حياة ديمقراطية حقيقية. ويتأسس علي ذلك الوضع، وجود «حكومة سياسية منتخبة»، باتت هي الصيغة المقبولة في الدول المتقدمة ديمقراطياً، بل وغيرها من الدول الساعية بصدق نحو الديمقراطية، تمتلك رؤية سياسية، تنطلق منها إلي بناء مجتمع جديد وفق ما جاء في الدستور، كمنهج عمل وطني، تتحقق بموجبه التنمية الشاملة الكفيلة بوضع الدولة المصرية علي طريق لطالما أسست لملامحه عبر تاريخها الطويل، كأول دولة عرفتها البشرية. غير أن الأمر علي هذا النحو لا ينبغي أن نتناوله بعيداً عن الكثير من الدروس التاريخية التي أقرت بإمكانية ارتداد الثورة إلي سابق العهد، مع نجاح بقايا الأنظمة التي أسقطتها الثورة، في العودة إلي مقاعدها، واقتناص ما أتاحته الممارسة الديمقراطية من فرص مواتية لتعديل توجه الركب الثوري باتجاه مصالحها، التي هي بلا شك لا تلتقي بالطموحات الثورية التي اعتلت حناجر الملايين الثائرة. ولذلك تبقي الثورة، محل شكوك كبيرة، رغم وجود الكثير من الممارسات والمظاهر الديمقراطية، حتى تسمو المبادئ والقواعد الديمقراطية ثقافة مجتمعية، حاكمة وغالبة علي ما عداها من قيم مجتمعية؛ ومن ثم يظل مفهوم الثورة يبحث عن مستقره إلي أن ترسخ القيم الديمقراطية، وليس إلا ذلك يعبر عن التغيرات الجذرية التي تحدثها الثورات الشعبية. وعليه، فلا مجال للحديث عن وصول فعاليات الثورة إلي منتهاها، إذا لم تسفر الانتخابات البرلمانية المقبلة عن إحكام القوى الثورية الوطنية قبضتها علي السلطة التشريعية، معلنة بالفعل مواصلة الإرادة الشعبية الحرة انتصاراتها، وبسط هيمنتها علي مقاليد السلطة، بعد نجاحها في الاستحقاق الرئاسي، ومن قبله الاستحقاق الدستوري؛ فخارطة المستقبل ليست إلا مباراة صفرية، لا تقبل استحقاقاتها وأهدافها القسمة بين أبناء وأعداء الثورة والوطن؛ وليس إلا كذلك يتحقق مفهوم الثورة كعمل تراكمي منحاز. «الوفد»