بعد تراكم دواعيها، واختمار أسبابها، تأتي الثورات الشعبية لتؤسس لمرحلة جديدة من حياة الشعوب، تشيع فيها دواعي الصراعات المجتمعية، مُتخذة أشكالاً عدة، وتوجهات ليست بالضرورة كلها وطنية، وتتصاعد تلك المخاطر في ظل غياب قيادة منطقية للثورة، وهو الأمر الذي عانت منه ثورة الخامس والعشرين من يناير. تلك هي المرحلة الانتقالية التي تحمل في طياتها فرصاً للمضي قدماً نحو تحقيق آمال الشعوب في حياة كريمة، قدر ما تحتفظ بداخلها بمولدات تدفع باتجاه الارتداد إلي الخلف، ومن ثم إعادة إنتاج أسباب الثورة.! وكما أن تجارب الشعوب بالغة الأثر في الرأي العام، فإنها ينبغي أن تكون كذلك لدي كافة القوى السياسية والمجتمعية، وكذلك القائمين علي إدارة شئون الدولة في تلك المرحلة الدقيقة، ففي تجارب الثورات الشعبية من الخبرات ما ينبغي الإصغاء له في سبيل إدراك حقيقة التحديات التي تواجه الأوطان في ظل تلك الظروف الاستثنائية من حياتها، الأمر الذي يقتضي عدم شيوع حالة الإحباط التي تنتاب البعض جراء «طول» المرحلة الانتقالية المصرية، وقد قاربت علي السنوات الثلاث، طالما بقيت قدرة الوطن علي الحركة الذاتية إلي الأمام قائمة. والحال كذلك، فإن نظرة موضوعية لا شك تقودنا إلي حقيقة مفادها أن المرحلة الانتقالية لا تعد «الأنسب» لتحقيق مُنجز وطني راسخ يلقي ارتياحاً وقبولاً عاماً لا تشوبه اعتراضات ومجابهات مؤثرة من تيارات وفئات مختلفة، وهو ما يمكن إلحاقه بالدستور المعدل، وما أثاره من جدل كبير، ينبغي أن يظل عالقاً بالعقل الجمعي للشعب المصري بعد إرساء قواعد المكونات الدستورية للدولة، بما يجعل من إعادة طرح الأمر أفضل حالاً من الوقت الحالي. فإذا كان الدستور المعدل لا يحقق كافة الطموحات، وهو كذلك بالفعل، ويحتفظ البعض بانتقادات منطقية لبعض مواده، سواء من حيث المبدأ أو الصياغة، فإن إجماعاً ينبغي أن يسودنا جميعاً بأنه خطوة لا بديل عنها في طريق التأكيد علي قدرة الدولة علي النهوض بمسئولياتها، في سبيل إخراج الوطن من دائرة المرحلة الانتقالية، وما تموج به من مخاطر، ربما تعلو فوق قدرة الوطن علي اجتيازها إذا ما تصاعدت أكثر من ذلك. وعلي الرغم من شيوع مصطلح «التوافق» في التجربة المصرية، والمزايدة به إلي حد بلوغ مفهوم «الإجماع»، وهو أمر لا يتسق والمنطق السياسي، إلا أن المرحلة الانتقالية لا ينبغي لها أن تتوقف عند هذا «التوافق» باعتباره ضرورة مُلحة، حيث لا ينبغي أن تتوقف عربة المجتمع علي طريق الثورة عند كل ما من شأنه تشتيت الانتباه، وتفريق الجهود، بدعوى الانتظار إلي حين تحقيق «التوافق»، ذلك «المتهم البريء» من كثير من المزايدات السياسية التي شكلت سمة لا تود أن تغيب عن حياتنا السياسية. وعليه .. فإن الدستور، باعتباره الخطوة الأولي علي طريق تحقيق خارطة المستقبل، لا ينبغي أن نجعل منه محلاً لمزايدات تُعلي من شأن المنافع الذاتية فوق اعتبارات المصالح الوطنية، ولا يصح أن تُشكل المواقف من الدستور وفق اعتبارات تجد صداها فيما نحن مقبلون عليه من انتخابات برلمانية.! فليس من شك أن دوران عجلة المجتمع، في كافة الاتجاهات، هو ما يمكن أن يُنشئ توافقاً حقيقياً ومتصاعداً يتواكب مع ما تم تحقيقه من المُنجز الثوري، فحركة المجتمعات لا تعرف درجة من الثبات، فهي دائماً في طريقها إلي الخلف، إذا ما عجزت عن التقدم إلي الأمام في انتظار «التوافق».! «الوفد»