عندما يتعاطى المجتمع الدولي مع القضايا العالمية من دون ازدواجية أو محاباة أو تحيز، يمكن القول لحظتها إن حقوق الإنسان مصونة، وإن أصعب القضايا والأزمات قابل للحل، وإن العالم يتجه إلى أن يصبح مكاناً يستحق فيه الجميع مكانهم الطبيعي، لكن ذلك لن يكون أبداً، لأن الواقع يصدمنا كل يوم بجملة من المتناقضات في السلوك السياسي لمختلف الدول، سواء الرائدة منها أو المتخلفة . عندما تلغى المنطقة الرمادية التي تقع فيها مختلف ردود فعل القوى العالمية عموماً، والغربية خصوصاً، إزاء قضايا الإنسانية والحقوق، نستطيع القول إن العالم متجه إلى الاستقرار، لكن الواضح أن هذه المنطقة الغائمة تشكّل ملجأ لكثير من الساعين إلى تمييع القضايا وتزييف الحقائق، لحساب مصالحهم، حتى إن كانت تتناقض مع ما ينادون به ويزعمون الحرص عليه . الأمثلة على الازدواجية والكيل بمكيالين في التعاطي مع القضايا العالمية لا تكاد تحصى، لكن هناك ملفات بارزة تكشف مدى ما وصلت إليه هذه الحالة المرضية، وكيف دبت عدواها في صفوف الكثير من القوى الدولية، وكأنها وباء غير قابل للهزيمة، وبغرض التدليل على حجم هذه الحالة، يكفي النظر مثلاً إلى التعاطي الأمريكي والغربي مع تطورات القضية الفلسطينية، والجرائم المتراكمة التي يقترفها الاحتلال "الإسرائيلي" بحق الكل الفلسطيني، وكيف أن واشنطن المنحازة تماماً للأخير لا تكف عن تصدير الأمل الزائف بإمكانية التوصل إلى حل للصراع، رغم أنها عامل أساسي في استمراره وتصعيده من خلال نهجها المنحاز وإزواجيتها . مثال آخر في أوكرانيا التي اتخذ الغرب من أزمتها "مسمار جحا" في شرق أوروبا، في إطار الصراع مع روسيا، وكيف أن هذا المجتمع الغربي المدعي السعي لصون حقوق الإنسان لم ينبس ببنت شفة إزاء التقارير عن استخدام القوات الأوكرانية أسلحة محرّمة دولياً في حربها ضد الانفصاليين الموالين لروسيا في مناطق شرقي البلاد، ورغم أن منظمة مثل "هيومن رايتس ووتش" الأمريكية كشفت أن الجيش الأوكراني استخدم قنابل عنقودية محرمة دولياً في المعارك حول مدينة دونيتسك، ما أدى إلى وقوع عشرات الإصابات، إلا أن المجتمع الدولي والغربي، ما زال متمسكاً بدعم ما يعتبرها "سلطة شرعية" . مثال ثالث بالغ الوضوح على الازدواجية يتمثل في التعاطي التركي مع الكارثة الإنسانية في مدينة "عين العرب" أو "كوباني" الكردية السورية الواقعة على مرمى حجر من حدود تركيا، والتي تشهد معارك دامية بين التنظيم الإرهابي "داعش"، ووحدات حماية الشعب الكردي، فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورموز إدارته، لا يكفّون عن الكذب وعدم الالتزام بوعود المشاركة في دحر هذا التهديد، والأمرّ من ذلك، أن أردوغان تساءل قبل يومين عن سبب الاهتمام الدولي بعين العرب، واعتبر أن من فيها ليسوا إلا "مجرد ألفي مقاتل" . إن وصف المقاتلين الذين ينوبون عن الكثير من القوى الدولية وعلى رأسها تركيا بأنهم "مجرد ألفي مقاتل"، وكأنه تصريح بأن قتلهم أمر طبيعي، أو بالأحرى مريح لتركيا التي ما زالت تواجه الصداع المزمن المتمثل بالقضية الكردية، لا يخلو من ازدواجية وخبث، ويخلو من أي إنسانية مزعومة، ومثل هذا لا بد أن يلقى رداً، خصوصاً وأن تركيا أردوغان لا تنفك تخرج يومياً بكل ما هو دخيل وقابع في المنطقة الرمادية . نقلا عن صحيفة الخليج