ما أحوجنا في هذه الأيام التي شاع فيها التطرف الفكري والديني والسياسي إلي الاعتدال والوسطية التي تفتح أبواب العقول والقلوب علي الحياة، وتُعلي من قيمة التعايش والإخاء واحترام الأخر مهما كانت قناعاته، وسطية تقاوم الموروثات الثقافية التي تدعو للانغلاق والتقوقع وسطية تسعي إلي مد جسور الثقة بين بني البشر بعيدا عن النعرات الطائفية، وكافة أشكال التميز التي تفسد علي الإنسان إنسانيته، وتدخله في صراعات وحماقات لا يجني منها سوي الأزمات والمشكلات، فالوسطية المتزنة التي تنأي بالعقل عن الشطط والغلو هي السبيل الوحيد لضمان وحدة وسلامة المجتمع من استنزاف طاقاته في صراعات الكراهية والفتنة، والانقسام والتشرذم فكلما زاد إيمان المجتمع بالوسطية والتعددية، أزداد تماسكاً حيث تكمن أهمية الوسطية في سعيها الدائم إلي تعضيد فكرة الوفاق والتوافق دون إفراط أو تفريط، مع مراعاة الواقع وضرورياته و أولوياته، فقد أثبتت التجارب أن الوسطية ضرورة ملحة في كل المناحي الإنسانية والحياتية لمواجهة أصحاب الخلل الفكري الذين انتقلوا من دائرة التفكير للتكفير وأخيرا للتفجير وإراقة الدماء. الوسطية لا تعني بالضرورة الوقوف في منتصف الطريق بين عقيدة وخلافها، وبين الفكرة ونقيضها وبين التوجه وعكسه، وإنما تعني حالة من التعقل والتروي وتفهم الأخر واعتماد فضيلة الحوار كمنهج وأسلوب للنقاش الذي يبني ولا يهدم، إن الوسطية إلي جانب معانيها اللغوية والاصطلاحية التي تنطوي علي العدل والخير، فهي تحقق للإنسان السلام الفكري والروحي لأنها تخلق له حالة من التوازن، بالإضافة لتبني الوسطية منهج المشاركة والإصلاح وفق آليات النضال السلمي التي تعمل علي توسيع دائرة حقوق الإنسان، والحريات ونبذ التصادم والعنف وعلي الرغم من أهمية الوسطية كمنهج للحياة ينبغي علي بني الإنسان إتباعه لما فيه من خير، إلا أن الوسطية أصبحت عملية صعبة ومعقدة التعريف، بسبب الالتباس في وضع حدودا لها فالوسطية ليست إجماعا كما أنها تختلف باختلاف المجتمعات، فعلي سبيل المثال ما نعتبره في مجتمعاتنا الشرقية وسطية لا ينطبق بالضرورة مع مقاييس الوسطية الغربية،إذا الوسطية ليست مجرد مفهوم أو مصطلح، إنما نسق ثقافي له آلياته في العمل وأسلوبه في التأثير ومنهجه في التفكير، فلا يمكن سيادة قيم الوسطية ما لم تكتمل جميع مقدماتها التي تقوم علي سلسله من العمليات الفكرية التي يخضع لها الفرد والمجتمع. الوسطية لا تقتصر علي النواحي الفكرية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية فقط بل هناك أيضا الوسطية الاقتصادية التي تعتمد علي إحداث توازن بين الأقطاب الاقتصادية، بهدف تحقيق تنمية شاملة، من خلال مشروع ربط بين الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والإداري من جهة وبين اقتصاديات السوق المتوحشة من جهة أخري، لتشكيل نموذج يسهم في رفع المستويات الإنتاجية وتحقيق قدرا من الاستقرار والاطمئنان المجتمعي، الوسطية هي الأفق الذي ينبغي أن نتحرك نحوه لإتمام عملية البناء والتنمية الشاملة والبناء الحضاري، فبمقدار التمسك بالوسطية وتوازناتها ترتقي المجتمعات وبنائها الحضاري وترسخ أركانها، فليس لقوة مهما بلغت أن تهزم أو تهدم حضارة قائمة علي الفكر الوسطي، الذي ينقل الإنسان إلي وضع أفضل يواكب متطلبات العصرويلبي احتياجاته