أهدتنى صديقتى «بسمة صلاح حسين»،نسخة من كتاب صدر فى الولاياتالمتحدةالأمريكية قبل نحو عشر سنوات، وترجم إلى العربية فى عام 2008، وصدرت طبعته الرابعة هذا العام . قلت لنفسى، جاء هذا الكتاب فى وقته تماما، مع عودة الحديث عن مفاوضات بين الحكومة وصندوق النقد الدولى، وتصريحات متضاربة من وزراء المجموعة الاقتصادية، يؤكد بعضها، وينفى بعضها الآخر، النية لتقدم مصر لأخذ قرض من الصندوق. الكتاب بعنوان «اعترافات قرصان اقتصادى» لمؤلفه الأمريكى «جون بركنز» الذى يعرف نفسه وكتابه بأنه ليس مجموعة من التعليمات، بل هو اعتراف مجرد وبسيط، لرجل سمح لنفسه فى وقت من الأوقات أن يكون رهينة، وباع نفسه لنظام فاسد، للحصول على مميزات هذا النظام، وبرغم علمه بكل ألوان فساده ،فقد استطاع فى كل خطوة أن يجد أعذارا تبرر له أطماعه، تماما، كما تبرر له نهب ثروات الشعوب واستغلال الفقراء والضعفاء والبائسين، مستفيدا بكل الطرق من مولده فى الولاياتالمتحدة التى تعد أحد أثرى المجتمعات فى العالم، وبرغم دراسة المؤلف للاقتصاد وإدارة الأعمال فى أرقى الجامعات الأمريكية، وقراءته المستفيضة فى كتب التنمية الاقتصادية الدراسية، فقد التحق بواحدة من أكبر الشركات فى بلاده لمد شبكات البترول والكهرباء والغاز للعمل كقرصان اقتصادى بعد سلسلة طويلة من تدريبات سرية مكثفة للتدرب على الاحتيال وإماتة الضمير، كان من بينها اغواءات جنسية، كى يتولى تزوير الدراسات الاقتصادية التى تطلب منه لمد تلك الشبكات فى البلدان الفقيرة النامية والمتخلفة، واتبع فى ذلك كما يقول فى كتابه، نموذج أولئك الذين أباحوا كل شىء، سعيا إلى تعزيز الامبراطورية الكونية، حتى لو كان هذا الشىء يشمل القتل والإبادة الجماعية وتدبير الانقلابات العسكرية، وتخريب البيئة، وهو ما أداه باقتدار لصالح هذه الشركة فى اندونيسياوبنما وكولومبيا والإكوادور والسعودية وعدد آخر من دول أمريكا الشمالية والدول الأسيوية! ويعرف المؤلف قراصنة الاقتصاد بأنهم مجموعة من الخبراء المحترفين ذوى الأجور المرتفعة الذين يتولون سلب ملايين الدولارات باساليب تتراوح بين الغش والخداع من دول عديدة فى أنحاء العالم، ويحولون المال من البنك الدولى وصندوق النقد الدولى وهيئة المعونة الأمريكية وغيرها من مؤسسات المعونات الدولية، إلى خزائن الشركات الكبرى، وجيوب حفنة من العائلات الثرية، التى تسيطر على الموارد الطبيعية فى كل بلدان العالم ،عن طريق اصطناع التقارير المالية، وتزوير الانتخابات، وإثارة الاضطرابات الاجتماعية، وتسويد أساليب الرشوة والابتزاز والجنس والاغتيالات. ويتم ذلك باستخدام المنظمات المالية الدولية لخلق أوضاع تخضع الأمم الأخرى لاحتكار الشركات والبنوك والحكومات الأمريكية المتعاقبة. وفى هذا السياق، يقوم قراصنة الاقتصاد بتقديم خدمات لمنح قروض مشروطة، لتنمية البنية التحتية، وبناء محطات توليد الكهرباء وضخ البترول، وشق الطرق وتشييد الموانئ والمطارات. أما شرط القرض فهو أن تتولى شركات إنشائية وهندسية أمريكية إدارة تلك المشروعات، وبذلك لا يخرج القدر الأكبر من القرض خارج الولاياتالمتحدة، بل يتنقل بين شركاتها وبنوكها فى مدنها وولايتها المختلفة، لاسيما، أن الدولة التى تحصل على هذه القروض تردها ومعها قيمة الفوائد الباهظة، وعندما ترتفع قيمة القروض فيغدو عجز الدول عن تسديدها مضمونا وهنا يدخل قراصنة الاقتصاد لفرض الشروط السياسية مثل السيطرة على تصويت الدولة فى الأممالمتحدة، أو إقامة قواعد عسكرية، أو الهيمنة على موارد الثروات الطبيعية كالغاز والبترول والقنوات المائية! بهذه الأساليب المتوحشة ،دمر قراصنة الاقتصاد مساحات هائلة من غابات الإكوادور لمد خط أنابيب لتزويد الولاياتالمتحدة بالبترول، ومع هذا الخط الذى زور المؤلف التقارير لخداع حكومة الإكوادور بفوائده المحلية، انقرضت حيوانات وطيور نادرة، مع اختفاء تلك الغابات، وانهارت ثقافات وحضارات محلية، ونضبت الأنهار القديمة، التى كانت تغذيها أمطار الغابات. وعكس ما كان متوقعا من أن مرحلة الازدهار البترولى لهذا البلد الصغير، ستؤدى إلى نهضة اقتصادية،ارتفعت نسبة الفقر من 50%إلى 70%، وزاد معدل البطالة من 15% إلى 70%، وانخفضت حصة الطبقات الفقيرة من مصادر الدخل القومى من 20% إلى 6%، وبعد أن كان الدين العام لا يتجاوز 240 مليون دولار، ارتفع إلى 16 مليار دولار. وحين انتخب شعب الإكوادور «خايمى رولدس» فقد جاء لبعث الأمل فى امكانية سيطرة شعبه على مصادر البترول، فأحال لمجلس التشريع قانونا، يعيد تشكيل علاقة الدولة بشركات البترول الأجنبية، وهدد أصحابها بالطرد خارج البلاد إذا لم تتضمن مشاريعهم ما يخدم شعب الإكوادور، هو التهديد الذى نفذه بالفعل. أدركت الولاياتالمتحدة مخاطر هذا النوع من الزعماء على مصالحها فى الهيمنة، وخشيت أن يمتد تأثير هذا القانون إلى بقية الدول فى أمريكا اللاتينية، فدبرت له المخابرات الأمريكية حادث اغتياله وهو يستقل طائرة هليو كوبتر مفخخة، تماما كما تم قتل الرئيس البنمى «عمر توريخوس» فى حاث صدام طائرة مصنوع بسبب نجاحه فى إرغام الولاياتالمتحدة على التخلى عن قناة بنما واعادتها لملكية الشعب البنمى، وتصديه بذلك لعالم الاحتكار والهيمنة وإهدار حقوق الشعوب. فعلت ذلك من قبل مع حكومة «مصدق» فى إيران التى أممت ثروته النفطية، فمولت الانقلاب العسكرى الذى أطاح به، كما اغتالت سلفادور الليندى» فى تشيلى، فى انقلاب مشابه، ومولت حملة الاضربات والانقلاب العسكرى الفاشل ضد «شافيز» فى فنزويلا وأعاده الشعب إلى السلطة فى انتخابات تالية. أدت الامبراطورية الأمريكية التى صنعها بدهاء واحتراف قراصنة الاقتصاد، إلى أن تبلغ ديون العالم الثالث حتى عام 2004 اكثر من اثنين ونصف تريليون دولار ولعله قد تضاعف الآن، ويمثل عبء خدمة الديون أكثر من 375 مليار دولار سنويا، وهو ما يمثل أكثر من عشرين مرة ما تتلقاه تلك الدول من معونات أجنبية، وفى هذه الدول يحتكر 1% من الأسر ما بين 70 إلى 90 %من الثروات والممتلكات الخاصة، وبسبب كل هذا الدمار الشامل لدول وشعوب وثروات طبيعية هى ملك للإنسانية جمعاء، استيقظ ضمير القرصان الاقتصادى «جون بركنز» وبتشجيع من ابنته وزوجته الثانية، قرر أن يكتب مذكراته ليكشف للعالم عن مافيا المساعدات الدولية والأجنبية، ويمتلك شجاعة الاعتراف بتوحش آليات السوق الحرة، وفق مشروعات تزيد من البطالة، وتخفض أجور العمالة الوطنية، وتؤدى إلى مستوى غير مسبوق من تدهور حياة الشعوب، وتخفض الخدمات الاجتماعية التى تقدمها الدولة، وتجبر الدولة على عدم التدخل فى الأنشطة الاقتصادية، وتحصر نشاطها فى حراسة البؤس والفقر والتدهور فى بلادها، وهو بجانب ذلك يدعو كل فرد على ظهر البسيطة إلى مقاومة تلك السياسات كل بطريقته، وفى القلب منها مقاومة الشره الاستهلاكى. كتاب جميل يتسم بنزعة إنسانية تدافع عن كرامة الشعوب وعن حقوقها ،اكتملت متعة قراءته بالترجمة البديعة لناشره ومترجمه مصطفى الطنانى بالاشتراك مع الدكتور عاطف معتمد، لكن ذلك لم يمنعنى من الفزع من تصريح كريستين لاجارد مديرة صندوق النقد الدولى التى أبدت فيه استعداد الصندوق لتقديم المساعدة فى مشروع قناة السويس، آنذاك دعوت من كل قلبى: يانجى الألطاف نجنا من شرور لاجارد وأنصارها فى الداخل والخارج.