«السجن» كلمة لا تكاد تقع على أذنيك حتى ترى أبواباً، وقضباناً حديدية مغلقة، بداخلها نفوس أجسادها لُطخت بعار الجريمة، ربما لهذا السبب كانت مقولة «السجن إصلاح وتهذيب». طالت فترة الإصلاح أم قصرت، فللسجين مصيران لا ثالث لهما «الموت أو الإفراج»، أما الأول فلا تجوز عليه إلا الرحمة، والحديث اليوم عن هؤلاء الذين كتب لهم المصير الثانى «الإفراج». وسنوياً يتم الإفراج عن آلاف المساجين، لكن هل تاب كل سجين من ذنبه بعد الإفراج عنه؟.. أم اختار السير على نفس الطريق كما هو فى سابق عهده «طريق الإجرام».. ويبقي السؤال: هل يعود السجناء السابقون إلي الجريمة مرة أخري؟.. كيف؟.. هل أتحنا لهم وظائف لمنعهم من العودة إلى الجريمة؟ لا حق لمفرج عنه اختار استكمال مسيرة الشيطان على الأرض، وإنما الحق هنا لمن تاب توبة نصوحاً، وخرج من بين القضبان فاتحاً ذراعيه للدنيا يريد أن يعيشها فى الحلال، وينعم بهدوء وراحة البال مع من تبقى من أهله.. أو بالأحرى يعيش مع من تقبل توبته من المجتمع، فالجميع يعلم أن خريج السجون يظل موصوماً بالعار وإن تاب وأصلح، يواجه المهانة، ويلفظه سوق العمل، فيجد أبواب الرزق الحلال مغلقة أمامه وأبواب الحرام، مفتوحة على مصراعيها.. وبعض السجناء المفرج عنهم يعتبر فترة السجن اختباراً من الله وابتلاء أرد الله بها أن يُشهد الجميع على آياته فى خلقه، وعظمته وقدرته على تقليب القلوب، فنعم هو كذلك بالتأكيد. فالله قادر علي أن يتوب على تاجر مخدرات استطاع بالحرام أن يكون من الأثرياء وأصحاب النفوذ، لديه سيارات، ومتاجر، وقصور، بيمينه السلطة يأمر وينهى عشرات العاملين لديه، يكافئ ويعاقب المؤتمرين بأمره، يعيش كالسبع وسط وحوش «الصنف» من التجار والموزعين والمتعاطين، تحت رئاسته عالم الشيطان. ومن أبرز قصص المفرج عنهم السجين السابق «محمد حسن رشوان على» تاجر مخدرات سابق تخطى عمره الخمسين عاماً، بعد أن قضى 23 سنة فى غيابات السجون، لم يقض السجن على «رشوان» جسدياً فهو مازال يتمتع بوافر الصحة قضى شبابه بين القضبان، خسر أثناء هذه العقوبة كل أمواله، إضافة إلى أسرته فهو زوج وأب لأربعة أبناء اختاروا البعد عنه حتى لا يلحق بهم عار الجريمة.. لكن السؤال هنا: ما دليل توبة محمد حسن رشوان على؟.. وكيف يمكن للمجتمع تقبله بعد أن لطخ يديه وتاريخه بالجريمة؟.. «الإجابة سهلة وواضحة» رشوان تاجر المخدرات السابق الذى اعتاد الرفاهية يعيش اليوم حياة «ضنك»، وينتظر الفرج بالحلال، هو فقير، لا يملك قوت يومه منذ خروجه من السجن، وبعد مرور عام على هذه الحياة الصعبة التى عانى فيها رشوان من الفقر والبطالة، مازال يكافح فى سبيل الحفاظ على توبته، فلا سكن ولا مأوى لرشوان غير أسوار المساجد والمرافق العامة، ورغم أن أبواب الشر مفتوحة أمامه على مصرعيها، إلا أنه يدير لها ظهره، ويحاول أن يطرق أبواباً أخرى ربما تأتى له بالفرج من الحلال.. لجأ رشوان ومجموعة ممن نجح السجن فى إصلاحهم لجريدة «الوفد» بعد أن طرقوا أبواب المسئولين دون فائدة، عشرات الأرقام التى استلمها «رشوان» كدليل على تقديمه شكوى أو طلب لمحافظة القاهرة، ورئيس الوزراء، وللرئيس السيسى، لكن من يسمع لتائب من ذنبه يوشك اليأس أن يُضعفه مرة أخرى ليتحول من طالب عمل إلى سلاح ضد المجتمع، وأداة لإفساد الشباب.. وهنا لابد أن نتساءل إلى متى يصمد رشوان أمام الجوع وإغراءات الشيطان ويلتزم بتوبته الكريمة؟.. فى ظل إهمال الحكومة وعدم تقديرها لخطورة رشوان وأمثاله على المجتمع بعد إهمالهم وتركهم بدون عمل أو توفير مصدر رزق يعينهم على الحياة، فلا يكون لهم مبرر لعدم العودة إلى طريق الشيطان وإلحاق الأذى بالآخرين.. هذا ما حدثنا فيه رشوان قائلاً: «الاعلام آخر محطة لى أتوجه من خلالها للمسئولين وبعدها هشيل راسى على كفى واشتغل مع الإرهاب وأثبت البشرية على الطريق وذنبى وذنبهم فى رقبة محافظ القاهرة ووزير الداخلية»، مشيراً إلى أن 90% من الجرائم يقوم بها المفرج عنهم بعد خروجهم من السجون، بسبب يأسهم من الحصول عن باب رزق شريف.. أما هو فمازال لديه أمل فى الحصول على عمل شريف. يضيف رشوان أنه يبحث عن عمل منذ عام بعد الإفراج عنه، وحصل على قرض حسن 4 آلاف جنيه من جمعية الأورمان الخيرية عقب خروجه من السجن، استغل رشوان المبلغ وفتح كشكاً صغيراً على طريق الأوتوستراد عند نادى شباب المعصرة، إلا أنه فوجئ بشرطة البلدية تدمر الكشك والبضاعة ويضيع الأمل الوحيد له، واستغاث «رشوان» بقطاع الأمن الاجتماعى لشرطة الرعاية التابعة لوزارة الداخلية، دون فائدة - فعلى حد قول رشوان - «هذا القطاع عاجزاً وليس لديه أى صلاحيات ولم يستطع أن يوفر لنا حتى رخصة كشك بالتنسيق مع المحافظة». محمد حسن رشوان شكوي للداخلية ظل «رشوان» حائراً بين إدارة الأمن الاجتماعى لشرطة الرعاية اللاحقة والمحافظة دون فائدة فتقدم بشكوى إلى وزير الداخلية رقم 742 بتاريخ 11 /2 /2014 ولم تنظر حتى الآن، ما دفعه إلى التوجه لرئيس الجمهورية شاكياً له مرارة الحال، وضيق اليد، والخوف من الحرام بعد أن دفع شبابه ثمناً للخطيئة طالباً عملاً وإلا فلا مفر من الجريمة.. هذه كانت آخر كلمات اختتم بها رشوان حديثه مع «الوفد»، تاركاً ساحة الحديث لغيره من التائبين والمهددين بالانحراف عن التوبة. «درديرى أحمد محمد حسن» 60 سنة، كان نزيلاً لسجن «القَطا» لمدة 22 سنة بتهمة الاتجار بالمخدرات، صدر قرار الإفراج عنه بعد قضاء المدة لكن لم يتم تنفيذ القرار بسبب عدم وجود محل إقامة، لهذا السبب قضى «درديرى» 5 سنوات إضافية فى سجن «القَطا» فقد ماتت زوجته قبل قرار الإفراج عنه، وتاهت منه البقية الباقية من أهله فى الدنيا الواسعة. بعد انتهاء السنوات الخمس الإضافية التى تطلق عليها مصلحة السجون «كوامل»، خرج «درديرى» بعد 27 سنة قضاها فى سجن «القَطا» ليجد نفسه وحيداً، لا أب ولا ولد، هذا عقاب ربما يستحقه «درديرى» بعد أن قبض عليه ومعه شحنة مخدرات استلمها من الهند ويسعى لتمريرها إلى بلجيكا. مازال وجه «درديرى» يحمل ملامح قاسية ومتطلعة تلمع أحياناً، إلا أنها سرعان ما تتراجع ويستبدلها إحساسه بواقع الحال الذى يعيشه بالانكسار والخوف، يعيش «درديرى» حياة بائسة فى غرفة سيئة أسفل حديقة «الخالدين» بالدراسة، ربما يستحق ذلك لكن الشعب المصرى لا يستحق انبعاث مجرم بعد توبته، «درديرى» لا يطلب الكثير، وإنما يطلب كشكاً أو ترخيص عربة يبيع عليها أى بضاعة بالحلال، ومن الحلال يستطيع أن يوفر لنفسه سكناً آدمياً.. هذا هو كلام وحال درديرى ربما يشمت فيه البعض ويتعاطف معه البعض الآخر، وإنما الحقيقة التى يجب أن يسلم بها أى عاقل أن توفير فرصة عمل ل «درديرى» وأمثاله غنيمة للبعض، وفرصة لاتقاء شر انحرافه عن طريق التوبة.. لقد لجأ «درديرى» لمحافظة القاهرة، وقطاع الأمن الاجتماعى لشرطة الرعاية اللاحقة بوزارة الداخلية، للحصول على ترخيص كشك صغير يرتزق منه بالحلال لكن دون فائدة. ملاك فخري
طريق الانحراف لم يختلف حال «ملاك فخرى» خريج سجن وادى النطرون ومسجل خطر عن حال «درديرى» كثيراً، غير أن المرض وإعالته لأربعة أطفال زاد عذابه عذاباً، وجعل احتمال انحرافه عن طريق التوبة أكثر من احتمال صموده لظروف الفقر والبطالة التى يعيشها، بعد الإفراج عنه، يعيش «ملاك» تاجر المخدرات التائب فى شقة على الطوب إيجارها 800 جنيه شهرياً، إضافة إلى ثمن العلاج له ولأولاده.. ويطالب «ملاك» بحمايته من الانحراف، واندفاعه إلى طريق الحرام، مما يعود على المجتمع بالضرر.. ويقول: «الشيطان يجمل لى أبوابه للخروج مما أنا فيه لكن أنا ماشى جنب الحيط ومش طالب غير باب رزق شريف».. لم يطلب «ملاك» الكثير، فأمنيته لا تتعدى إصدار ترخيص لكشك وسكن بسيط، ولو غرفة واحدة، ويا له من ثمن بسيط يمكن أن تدفعه دولة مقابل استقامة مواطن.. تقدم «ملاك» إلى السكرتير العام المساعد لمحافظة القاهرة بطلب رقم 620 بتاريخ 13 /3 /2012، ولحى الساحل التابع لمحافظة القاهرة بالطلب رقم 166 بتاريخ 22 /3 /2012 للحصول على ترخيص كشك، والنتيجة «لا حياة لمن تنادى». مجدي السيد أحمد
لص السيارات «مجدى السيد أحمد محمد» حرامى سيارات، تاب إلى الله بعد أن قضى فى السجون أكثر من 5 سنوات، خرج مجدى وهو يعاهد الله على التوبة النصوح، وأن ينفق على ابنه الوحيد من الحلال، لكن ترى من يقبل عاملاً لديه سابقة سرقة؟ بدأ مجدى حديثه معنا قائلاً: «لقد أستدنت ملابسي التي حضرت بها إلي «الوفد» وباكل كل يوم من زبالة الناس ومتحمل على أمل ربنا يقبل توبتى ويفرجها على بالحلال».. لم يكذب مجدى فيما قاله، فهيئته تدل على فقره المدقع، ومن ثم تدل على توبته النصوحة، فهو حتى الآن لم يخن عهده مع الله، واضطر «مجدى» أن يترك ابنه مع جده من أمه ليصرف عليه بالحلال حتى يجد عملاً ومسكناً آدمياً يؤويه، زاد يأس «مجدى» فى الحصول على عمل حينما تعرض لحادث أفقده بعض أصابع كفه اليمنى، لكن هذا لم يمنعه من التقدم إلى السكرتير العام المساعد لمحافظ القاهرة بالطلب رقم 771 بتاريخ 24 /3 /2011 للحصول على رخصة «باكية» وهى منضدة ثابتة أو متحركة يبيع عليها سلعاً خفيفة وتكون بمثابة باب رزق حلال. «حسن أحمد محمد حسن» يبلغ من العمر 63 سنة، قضى منها 18 عاماً فى السجن بتهمة الاتجار بالمخدرات مازال متماسكاً جسدياً ونفسياً بدأ حديثه ل «الوفد»، قائلاً: «إحنا شباب ونقدر نشتغل، ومش طالبين إحسان»، ملوحاً فى حديثه بأن غيرهم من المسجلين خطر يمارسون الجريمة فى الخفاء ويعيشون فى الحرام، إلا أنه اختار التوبة ولا يطلب الكثير فهو يطلب عملاً تحت رقابة وزارة الداخلية، وإلا فمقاومة إغراءات الشياطين لن تدوم كثيراً، واختتم حسن حديثه قائلاً: «الله يغفر، لكن البشر لا يغفرون، فاصحاب العمل يرفضون تشغيلنا، والدولة هى الملجأ الأخير لإنقاذنا من الضياع». الرزق الحلال «محمد»، و«درديرى»، و«حسن»، و«ملاك»، و«مجدى» لم ينكروا أخطاءهم، ولم يتلمسوا أعذاراً لها، قضوا عقوبتها وتاب الله عليهم، واليوم يطلبون الرزق الحلال، هذا ما دفع جريدة «الوفد» للخروج معهم قاصدة قطاع الأمن الاجتماعى لشرطة الرعاية اللاحقة التابع لوزارة الداخلية بالعتبة للقاء اللواء «هشام ثروت» المدير العام للقطاع، عسى أن يقوم بدوره وواجبه حيال التائبين، وهى الرعاية اللاحقة بعد الإفراج، لكن للأسف بعد انتظار قصير على باب مكتب اللواء هشام كان اللقاء غير مثمر، فقد رفض مدير القطاع الحديث إلى مندوبة «الوفد» بشأن المفرج عنهم إلا بتصريح من وزارة الداخلية، وعندما أعفيناه من الحديث مقابل التدخل لمساعدة التائبين فى الحصول على عمل وهذه المساعدة من صميم عمله كمدير ادارة قطاع الرعاية اللاحقة، فما كان من اللواء هشام غير الرد باستعلاء قائلاً: «من أنت لكى تسألينى مساعدتهم، وترشدينى كيف أعمل وماذا أعمل، وما أدراكى إننى لا أساعدهم؟».