وأنا في طريقي إلى مقاهي وسط البلد في رحلتي الأسبوعية قبل غروب الشمس كعادتي كل خميس.. أري وجوه أهل القاهرة وقد تغيرت وتبدلت اليوم تلو الآخر.. أتأمل وجوهاً حفر فيها العرق الأخاديد والشروخ.. أرى جلوداً وقد كساها الصدأ ورؤوساً أعيتها الهموم وحرارة الشمس.. أري من يبحثون عن لقمة عيش أو كسرة خبز في صناديق الزبالة من هنا أو هناك فانظر اليهم وأن ألعن ألف ألف مرة من تسبب في هذا المشهد المؤلم الحزين أو شارك في حدوثه أو كان هذا العبث نتيجة لأفعاله أو قراراته.. أرى أناساً بيض الوجوه من حمرة الثراء يختبئون خلف زجاج السيارة حتي لا تحرقهم أشعة الشمس عند الغروب.. أرى العاشقين والساخطين.. أرى الفهلوي والنصاب وابن الحلال.. في تلك الرحلة تري الأفراح المختلطة بالأحزان وإن تنوعت وتبدلت. وصلت الى مقصدي وجلست على كرسي الذي أجلس عليه كالعادة.. ظهر لي القهوجي ولم ألتفت إليه من شدة التعب وبصوته العالي «أجيبلك كازوزة يا أفندي».. كازوزة!! يا فندي!! نظرت إليه وجدته نفس الشخص.. نفس الصوت.. قلت لنفسي انه يمزح معي وبدون تعليق هززت رأسي بالموافقة.. نظرت للشارع وجدته خالياً من الباعة الجائلين.. خالياً من الشتائم والسباب والمعارك.. خالياً من البشر الا قليلاً ممن يرتدون البدل وعلى رؤوسهم الطربوش.. وجدت الناس وقد اختلفوا هذه الرحلة. البدلة والطربوش.. الجلباب والنابوت.. اسمع رنة الخلخال ودوي القباقيب دخلت إلى المقهى مسرعاً خائفاً مختبئاً لعله حلم.. أو دس لي صديق سوء أقراص الهلوسة.. وجدت رواد المقهى قد توقفوا عن الكلام مندهشين من رؤيتي ومظهري ينظرون الى ملابسي.. يتوجهون بأعينهم الى رأسي العاري الخالي من الطربوش وكأنني جاسوس اجنبي من دولة بعيدة لم يسمعوا عنها من قبل.. تأكدت يقينا أنه الحلم أو الهلوسة لا ثالث لهما. سمعتهم بعد أن رجعوا الى أحاديثهم وتركوني وشأني.. منهم من يتحدث عن الاحتلال وقسوته.. وسعد زغلول وزعامته والوفد وشعبيته والاستقلال وحتميته.. سمعت حديثاً عن الجامعة المصرية وأن الأميرة فاطمة بنت الخديو اسماعيل تبرعت بثلاثة آلاف فدان يخصص ريعها للجامعة فضلاً عن ستة أفدنة لاقامة مباني الجامعة و18 ألف جنيه ذهبي.. إنهم يتحدثون عن أثرياء ساهموا في بناء مصر في كل ربوعها.. سمعت حواراً عن الفلاح وعظمته وصمته وصبره والكرباج والسخرة.. انهم يتحدثون في الآداب والفنون والعمارة والثقافة يتحدثون في السياسة والعمل الوطني والصحافة والصحفجية.. وأنا أسترق السمع بعدما وجدتني غريباً سمعت المذياع يشدو بأغان لم أسمعها من قبل كلمات لها حلاوة.. وألحان لها رنين خاص يدخل القلب ويفتح العقل بكل هدوء نحو التأمل في معنى الجمال. أعجبتني كلمة أفندي.. رأيت معارك ووجدت أدب الحوار.. وجدت النابوت ووراءه رجال.. وجدت الكازوزة وقد حضر القهوجي يصرخ في وجهي اشرب يا أفندي الكازوزة سخنت.. لقد أفاقني هذا الوغد الملعون وعدت الى نفسي أتساءل عن سحر هذا الطربوش وحبوب الهلوسة والأحلام. الوجوه نعم تغيرت.. الأساليب نعم اختلفت.. ولكن بقيت المرادفات كما هى تقريباً.. الاحتلال.. الاستقلال.. العمل الوطني.. الثرياء.. السياسة.. الخ. اتخذت قراري بالرحيل حتى لا يجن جنوني ذاهباً الى بيتي.. قلعتي المنيعة ومكاني المحصن متأملاً الأفنديات وأحاديثهم والطربوش وسحره والخلخال ورنته والقبقاب ودقته. أخذت خطواتي تتسارع الى بيتي هارباً مما أرى ووصلت الى غرفة نومي بعدما تأكدت من مداخل البيت ومخارجه وتيقنت أنه لم يتغير ونظرت الى المرآة فوجدتني كما أنا لم أتغير.. ورأيت طربوشاً معلقاً على الشماعة فأمسكت به مستغرباً مندهشاً وبهدوء شديد وقفت أمام المرآة أتأمل يدي وهى ترفع الطربوش فوق رأسي في استسلام وأنا أبتسم.. لا أستطيع أن أفرق بين الأحلام والهلوسة والواقع.