مفارقة عجيبة أن يأتي احتفال مصر بالعيد ال 59 لثورة 23 يوليه 1952 ، في الوقت الذي نحتفل فيه بمرور ستة أشهر علي ثورة 25 يناير 2011 التي – برغم أنها لم تضع أوزراها بعد ولم يتضح مستقبلها - يعتبرها مؤرخون بمثابة حركة تصحيحية تعويضية لما فقده المصريون في ثورة 23 يوليه ولم يتمكنوا من تحقيقه خصوصا الديمقراطية . أما المفارقة الحقيقية فهي أننا نحتفل بذكري ثورة 23 يوليه ونحن نخوض غمار أجواء مشابهه – بعد ثورة 25 يناير - لما مرت به ثورة 23 يوليه من حيث الجدال الحاد حول الديمقراطية وضماناتها وفوضى الخلافات بين ائتلافات الثورة والأحزاب ونغوص في بحر الأوحال والتخوين والإقصاء الذي عاشته مصر بعد ثورة 23 يوليه وأنتهي بكفر الناس بالحرية والديمقراطية والمطالب بعدم عودة الأحزاب ودخول مصر حقبة الحزب الفاشي الواحد لينتهي الأمر – بعد عامين من الجدل وتحديدا عام 1954 لإلغاء وعدم تحقق هذا المبدأ الهام من مبادئ ثورة يوليه بشان الحياة الديمقراطية، وهو نفس ما يتخوف منه كثيرون في ظل الجدل المتصاعد حول الانتخابات أولا أم الدستور ، ووثيقة حاكمة أم لا ؟!. وفي الوقت الذي لا يزال المصريون يهتفون فيه بشعار ثورة 25 يناير (أرفع رأسك فوق أنت مصري ) ، يتذكر من عاصروا ثورة 23 يوليه شعارها الشهير ( أرفع راسك يا أخي عاليا فقد مضي عهد الاستعمار ) .. ويقارنون بين معني (أنت مصري) التي تشير لكل معاني الحرية والكرامة والعدالة والتحرر الداخلي من الديكتاتورية، ومعني (مضي عهد الاستعمار) الذي يشير لأهم هدف حققته ثورة يوليه وهو تحرير مصر من الاستعمار الخارجي . ما تحقق وما فشلت فيه يوليه فمبادئ ثورة 23 يوليه الستة لم يتحقق منها سوي خمسة ، وظل مبدأ (إقامة حياة ديمقراطية سليمة) معطلا، وما نجحت فيه الثورة حينئذ بشكل كبير كان القضاء على الاستعمار و إقامة جيش وطني قوي.. أما باقي مبادئها مثل : (القضاء على الإقطاع) و(القضاء على سيطرة رأس المال) و(إقامة عدالة اجتماعية) ، فقد تعطلت بسبب الجدل حولها وقضت عليها الأنظمة اللاحقة . مبارك استبدل الإقطاع العقاري بالزراعي فقد عاد الإقطاع بعد ثورة 23 يوليه ولكن ليس بالسيطرة علي الأراضي الزراعية واحتكار الف باشا لمئات ألاف الأفدنة ، وإنما باحتكار وسيطرة الآلاف من أنصار وأعوان نظام مبارك السابق علي العقارات وأراضي البناء والاستيلاء عليها حتي أن كثرة ما يمتلكه كل مسئول سابق وأبناءه من أراضي وفيلات وشقق سكنية في تحقيقات الكسب غير المشروع أثارت دهشة المحققين ! أيضا عادت سيطرة رأس المال كما ظهر في حكومات الحزب الوطني المنحل المتعاقبة وسيطرة رجال الأعمال عليها وجمعهم بين الثروة والسلطة.. كما ضاعت العدالة الاجتماعية بدليل انتشار الفقر في مصر وارتفاع معدلاته بصورة جعلت هناك قري تحت مستوي الفقر العالمي . ولهذا كانت ثورة 25 يناير ثورة شاملة سعت للقضاء علي هذا الفساد والإقطاع الجديد وسيطرة رأس المال ، ضمن هدف أوسع هو القضاء علي الديكتاتورية التي سمحت لهذه الجراثيم أن تعشش تحت مقعد الحكم ، واستعادة كرامة الإنسان المصري الذي ذاق القهر والتعذيب بجانب الفقر وعدم العدالة الاقتصادية أو الاجتماعية . أشكال العدالة التي ضاعت فقد انتفت صور العدالة.. بداية من رفع مكانة لاعبي الكرة والممثلين والراقصات في وسائل الإعلام لأعلي مكانة ، وخسف مقام العلماء والمفكرين والمخترعين والرموز العلمية (أطباء – أدباء – مفكرين – علماء دين وعلماء علوم – أساتذة ومعلمين) ، ومرورا بانتفاء العدالة الوظيفية (المحسوبية) والسياسية ( تزوير انتخابات) والاقتصادية (الرشوة والفساد وغياب الطبقة المتوسطة لصالح فئة قليلة من أصحاب المال ) والاجتماعية ( تصعيد الفئات المنافقة وكتبة السلطة ومؤيديها ) علي حساب أصحاب الكفاءة العلمية والفنية والوظيفية الحقيقية ، ما انعكس علي حالات إحباط متتالية لدي غالبية فئات الشعب كان لها أثرا مدمرا علي الشخصية المصرية بسبب سياسات الإفقار (المركز القومي للبحوث الجنائية أكد أن هناك 11 مليون مواطن يعيشون في 961 منطقة عشوائية ، وان نسبة الفقراء تبلغ 55% قابلة للزيادة وتقرير البنك الدولي يؤكد أن نسبة فقراء مصر من السكان 42% ) . أيضا قامت ثورة 25 يناير لتصحيح ما ضاع من قيم العدالة .. فقد باتت قيم النفاق والنفعية والوصولية والتواكل والصعود علي أكتاف الآخرين بدون مجهود هي الصفات الغالبة ، وأصبح التفاني في العمل أو العلم والاختراع أو تعليم الأجيال أو الاختراع غير مرحب بها ، ما نتج عنه كثرة ظواهر "الانتحار" لعدم القدرة علي العمل رغم الحصول علي مؤهل عال أو الزواج ( سجلت إحصائيات للمركز القومي للسموم التابع لجامعة القاهرة وقوع ألفين و2355 حالة انتحار بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين 22 و23عاما، وذلك خلال عام 2006 طبقا للإحصائيات الرسمية ، و تزايد حالات انتحار الشباب نتيجة البطالة وعدم توافر فرص العمل حتي سن متأخرة للشباب ) . وكذلك "انتشار المخدرات بين الشباب" (كشفت مناقشات في لجنة الصحة بالبرلمان المصري أوائل يناير 2008 عن في أن حجم الإنفاق من قبل عدد من المصريين علي تعاطي المخدرات، يقدر بنحو 16 مليار جنيه سنويا ( 2.9 مليار دولار) ، وعدد المدمنين والمتعاطين بما يقرب من 20 ألف مدمن، ما يعتبر خطرًا هائلا على المجتمع) . وهذا غير انتشار عادات "الزواج العرفي" (أكدت دراسة لوزارة التضامن الاجتماعي أن 17% من طلاب الجامعات في مصر متزوجون عرفيا ، أي قرابة 255 ألف طالب وطالبة من عدد طلاب الجامعات البالغ5,1 مليون ، فيما قالت دراسة أخري للمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بالقاهرة وجود 10 آلاف حالة زواج عرفي بين السكرتيرات ومديري المكاتب بنسبة مئوية تقترب من 11.5% ، وذلك من بين 87 ألف حالة رصدها الدراسة ) ، وهذا غير انتشار الأفكار المتطرفة سواء الدينية (جماعات عنف جديدة أكثر شراسة متوقعة نتيجة الفساد والشعور بالظلم وأكثر تكنولوجيا لأنها تتواصل بالانترنت والوسائل الحديثة ) أو الدنيوية ( جماعات عبادة الشيطان أو الشذوذ أو تجارة البنات والرقيق الأبيض والسحر والدجل والشعوذة ) ، فضلا عن تزايد حالات الخروج علي الأمن والنظام من قبل عصابات وتزايد الجرأة في مواجهة أجهزة الأمن . وهذه النقطة الأخيرة كانت سر الصدام الجماهيري مع الشرطة وعدم الخوف من الاستشهاد.. بسبب تصاعد الظلم والاعتداءات البوليسية غير المبررة علي المصريين سواء في منازلهم (زوار الفجر من أمن الدولة ) أو في أقسام الشرطة وتصاعد لغة التعذيب والإهانة والتعالي من قبل أي صاحب سلطة (شرطي أو مسئول في جهاز كبير أو في وزارة أو أي جهة ذات سيادة ) .. فكلها أدت لتصاعد حالات الكراهية والغضب من أجهزة السلطة بصرف النظر عما يقال أن من يقوم بهذه الممارسات الشاذة هم قلة من الضباط أو المسئولين . وكل هذا نتيجة انعدام العدالة ، فأصبح المواطن البسيط يحمل رجل الشرطة مسئولية ما يعانيه من فساد وقهر وتعذيب وتسلط وسياسات حكومية متخبطة ، وزاد من هذا التوجه للإنسان المصري باتجاه العنف ضد الشرطة وأجهزة الدولة زيادة مساحة الاهتمام الرسمي بالأمن السياسي علي حساب الأمن الجنائي ( ظاهرة عزت حنفي تاجر المخدرات الشهير الذي أعتقل وأعدم بعدما غضت عنه الشرطة الطرف سنوات طويلة لصالح الأمن السياسي ) . ثورة 25 يناير أعادت الروح لثورة يوليو ثورة 25 يناير أعادت بالتالي الروح لثورة 23 يوليو أو صححت الكثير من الأوضاع التي فشلت في تحقيقها ثورة 23 يوليه أو التي ضاعت معالمها علي أيدي نظام الرئيس السابق حسني مبارك. فهي – ثورة 25 يناير - استحضرت مبادئ ثورة 23 يوليو التي تضمنت العدالة الاجتماعية وبناء نظام ديمقراطي، وتكافؤ الفرص والتكافل الاجتماعي والقضاء على الإقطاع في صورته الجديدة (الإقطاع العقاري)، ويمكن القول أنها سعت لتصحيح ما فشلت فيه كل الثورات المصرية السابقة خصوصا ثورتي 1952 و1919 ، برغم أنها تعاني حاليا من نفس أعراض الخلافات التي ظهرت بين من انتصروا في الثورات القديمة ! فثورة 25 يناير وما رفعته من شعارات لكرامة ورفعة المواطن المصري هي عبارة عن تجديد لثورة 23 يوليو وتصحيح لكثير من الأخطاء، فالديمقراطية التي جري وأدها بعد ثورة 23 يوليه أصبحت هي المكسب الأكبر لثورة 25 يناير بعدما خرجت مئات الأحزاب وائتلاف الثورة وأصبح هدف الانتخابات الحرة هو الهدف الأول . هل يحدث انقلاب علي الديمقراطية ؟ ولأن المقارنة بين ثورتي 25 يناير و23 يوليه أساسها هو انقلاب الجيش علي الديمقراطية كما يري بعض السياسيين أو انقلاب الشعب نفسه (بحسب شهادة خالد محيي الدين في نص استقالته من مجلس قيادة الثورة التي قال فيها أن الشعب لا يرغب في الحياة النيابية الآن) .. فقد أصبح السؤال بعد حالة الفوضى والتخبط والصراعات السياسية الحالية بين من قاموا بالثورة ، هو : هل يحدث انقلاب علي الديمقراطية ؟! الدكتور رشاد البيومي نائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمون قال لي أن احتمالات قيام الجيش المصري بانقلاب علي الديمقراطية وعلي جماعة الإخوان المسلمين مستقبلا عقب نجاح الثورة الشعبية الحالية ، كما حدث عقب ثورة يوليه 1952 ، لن يحدث لأن الأمر مختلف .. فثورة 25 يناير 2011 الشعبية قام بها الشعب وساندها الجيش ، بعكس ثورة يوليو 52 ، التي قام بها الجيش وساندهم الاخوان والشعب . كما أن سلوك المجلس العسكري في ثورة 25 يناير يختلف جذريا عن سلوك مجلس قيادة الثورة عام 1952، وهناك قناعة لدي الجيش بضرورة الاحتكام للديمقراطية ، وهناك عزم واضح علي سرعة إجراء الانتخابات وتسليم السلطة لحكومة ورئيس منتخب لأن أوضاع 1952 تختلف جذريا عن أوضاع 2011 ، والمصريون لن يسمحوا أن تضيع ثورة 25 يناير وتفشل كما فشلت الثورات السابقة في تحقيق أهدافها وحدث تراجع لاحق عن كل أهدافها .