لعلها أكبر وأقسى فاجعة تتلقاها صاحبة الجلالة منذ عقود.. هي أسطر حزينة خطها صباح اليوم الجمعة لكاتب اعتاد أن يرسم البسمة على شفاهنا الجائعة للفرحة، بعد 50 عاماً من كتابة عموده الساخر الذي أضحك الملايين، و86 عاماً حافلة بحب الحياة ومقت فسادها، فاليوم رحل الكاتب الساخر "أحمد رجب" بعد صراع مرير مع المرض الذي لم يعق قلمه عن الكتابة ولا قلبه عن حب الوطن. استطاع رجب أن يحيط حياته بالغموض لنعجز أن نجد له اليوم سوى خطوط رفيعة عن حياته ومجلدات من كتاباته التى سخرها لقارئيه، فهو لا يدلي بتصريحات صحفية ولا يتحدث عن حياته الخاصة في حوار صحفي كان أو تلفزيوني، ولا يمكن أن تجد عن حياته سوى ورقتين سجلهما بأرشيف جريدة "أخبار اليوم" تقول أولاهما "أحمد إبراهيم رجب، من مواليد منطقة الرمل بالإسكندرية، بتاريخ 20 نوفمبر 1928، تخرج فى كلية الحقوق هناك فى 1951، ثم عمل محرراً بدار أخبار اليوم بالإسكندرية، وبعدها محرراً بمجلة الجيل، ثم مدير تحرير لها"، أما الورقة الثانية فهى لمركز معلومات مؤسسة أخبار اليوم، يذكر فيها أنه تزوج فى 1961 ولم ينجب بعد، وأن الوظائف التى تقلدها هى مدير تحرير «الجيل» فى 1957، ثم نائب رئيس تحرير «الجيل»، ومدير تحرير مجلة «هى» فى 1964، وعمل بمجلة «الثقافة الأمريكية» في 1962. حفلت مؤسسة "أخبار اليوم" بأعمال أحمد رجب لأكثر من خمسين عاماً من خلال لوحاته الأربع التى تصدرت صفحات الجريدة المذكورة، كان أولها مطرب الأخبار في الصفحة الأولى، ثم شخصياته التى رسمها بريشة الفنان مصطفى حسين، وثالثها «الحب هو» فى الصفحة الأخيرة، وآخرها «نص كلمة» التى لا تزال تطل علينا حتى الآن وستنقطع مع رحيله ليخيم الوجوم على صحيفة أخبار اليوم إلى الأبد. من أبرز الشخصيات التى وضعت بصمتها في حياة رجب هما على ومصطفى أمين الذى اعترف أنه أحب الكتابة الساخرة على يد الأخير فى مجلة "الاثنين"، قائلاً: "كثيراً ما ضبطني المدرسون في ثانوي وأنا أضع مجلة (الاثنين)، التى كان يكتب فيها مصطفى أمين بإمضاء مصمص، تحت الكراسات أقرؤها وتفضحني عند المدرس ضحكاتي»، وكتب عنه مصطفى أمين مقالاً بمجلة «الهلال» فى ديسمبر 1995 قال فيه "أحمد رجب هو تلميذي ومنذ اليوم الذى عرفته فيه تنبأت له بدور كبير سوف يلعبه فى حياة المجتمع المصرى، فقلمه ساخر وأسلوبه جذاب استطاع أن يُضحك المصريين لأكثر من 20 عاماً ويرسم الابتسامة على شفاههم، ولقد أعطيت الحرية لأحمد رجب لكي يكتب ما يريد فلا رقيب عليه أبداً، ولم أكن أطلب منه أن يعرض عليّ ما يكتبه أو يرسمه مصطفى حسين، لأن تجربتي السابقة علمتني أن وضع أي قيد على الكاريكاتير يفقده قيمته على الفور". الغرفة 53 بمقر مؤسسة أخبار اليوم كانت أعرق غرف المؤسسة منذ البداية، يقطنها العظماء فيدرون بأعمالهم التى جعلت أخبار اليوم هي صحيفة كل مصري في أيام مضت، فأول من اتخذها مكتباً هو توفيق الحكيم، ثم كامل الشناوى، ثم جلال الدين الحمامصى، ثم موسى صبرى، ثم أنيس منصور، ثم سعيد سنبل، ثم أحمد رجب الذى قضى بها نصف عمره قدم منها أحلى روائعه في صمت يليق بالعظماء. كما يقول جمال الغيطانى (أعز أصدقائه) عن رجب "يظل رجب ولمدة 3 ساعات منقطعًا لا يلتقي أحداً ولا يرد على رنين هاتف، ثم تصل إلى سكرتارية تحرير الأخبار ورقة بخطه تحوى سطرين، أو ثلاثة، أو أقل، وربما يكون سطراً واحداً، أو كلمات قليلة مكتوبة بخط كبير نسبيًا منسق، منمق، تبدأ سطوره على مسافة من حافة الصفحة وتنتهى قبل حدها الأيسر تتوسط الفراغ الأكبر ولا أرى حرفًا واحدًا مشطوبًا، إنها نصف كلمة التى يكتبها يوميًا فى جريدة الأخبار". حصل الكاتب الساخر الحنون بصفات متناقضة على مدار حياته، فتارة لقبوه بعدو المرأة لكلماته الساخرة التي نعت بها السيدة المصرية المتسلطة على أمور بيتها وزوجها، على رغم أن حياته اكتنفت بسر كبير هو عشقه لزوجته التى سجلته كلماته لها المتصدرة أعماله فكما تقول أرق كلماته لها على صدر كتاب ضربه في قلبك" عندما يسافر الخوف فى الشرايين ويصبح أمن النفس أمنية بعيدة، وتنطلق من الأعماق أصوات استغاثة لا يسمعها أحد، فإنها هي وحدها التي تسمعني.. قلعة الأمان التى أحتمى بها من المجهول، أعز الناس أمس، واليوم، وإلى الأبد"، التى رحلت منذ أعوام، ليلحق بها عاشقها اليوم في فراق لكل محبيه وتلامتذته من عشاق الكتابة الساخرة.