الأقدار جعلت من المهندس محمد الصاوي مسئولا عن نشر الفكر والإبداع، كما فعل الأب وزير الثقافة في عهد عبدالناصر، وهي أيضا التي جعلت من الابن وزيرا للثقافة لمدة أيام عقب الثورة، ولكنه ظل وزير الثقافة الشعبية كما يلقبه جمهور "ساقية الصاوي" بعد أن حولها من خرابة بضاحية الزمالك لإحدى أكثر مراكز الثقافة جذبا وتأثيرا. وفي حواره ل"بوابة الوفد الإلكترونية" قال الصاوي: إن معارضته للابتذال سبب اتهامه بالرجعية، وقد كتب عن شلل مصر في عصر مبارك ورفض أي أنشطة تروج لحزبه أو نظامه قبل الثورة، كما كشف عن تهديدات إزالة الساقية من قبل ضباط مرتشين. كما اعتبر الصاوي أن فاروق حسني ظل يرعى الفساد والشللية بوزارته، موجها سؤالا صريحا لوزير الثقافة الحالي : "ماذا تنتظر؟ ".. فإلى نص الحوار • لماذا قبلت الوزارة في حكومة مرفوضة شعبيا ؟ - أبديت تخوفي من فقدان محبة الناس على الفريق أحمد شفيق رئيس الحكومة، وقلت له إن لديه وزيرة القوى العاملة تتذلل لسوزان مبارك، ود. مفيد شهاب أحد أسوأ الوزراء الذين خربوا مصر، أو سامح فهمي مصدر الغاز لإسرائيل، وغيرهم مثل وزير الخارجية أحمد أبوالغيط ووزير التموين علي المصيلحي، وكلهم وجوه ارتبطت بالنظام الفاسد السابق . وقد طمأنني شفيق بأنهم لن يبقوا طويلا، وأن البلد بحاجة إليّ في مجال الثقافة، وهو ما جعلني أعزم على خدمة وطني بوضع بنية لإصلاح الثقافة؛ ومن اليوم الأول رفضت الحراسات والمواكب التي تحيط بالوزير وكنت أرغب في الاحتكاك بالشارع، وعملت بأقصى جهد لي وشهدت موجة تظلمات كبيرة، وحاولت تحفيز الجميع على النجاح ونبذ ثقافة القرارات الهوائية أو المجاملات، لأن آفة مصر الحقيقية في الاستثناء؛ فيرفع المسئول من يرضى عنه ويحرم سواه من الميزات . خيانة مبارك لمصالح شعبه • ما الحال الذي وجدت عليه وزارة الثقافة ؟ - كانت الوزارة تُدار بشكل سيئ تماما في عهد فاروق حسني، وكنت أتعجب كيف يربح موظف بالوزارة مليون جنيه في بلد فقير، وكيف تمنح الصلاحيات الكبيرة للمقربين من الوزير بلا مبرر معقول؟، وتأكدت من خيانة نظام كامل، بدءًا من الرئيس مبارك الذي باع مصالح شعبه لكسب رضا دول أخرى من بينها إسرائيل، ومرورا بكافة رجاله الذين شاركوه تخريب البلد وتشويه الشخصية المصرية وقتل الطموح فيها . لكن الثورة أظهرت أن الفطرة الإنسانية حتى لو أهيل عليها التراب يمكن أن تعود لطبيعتها بعد انتفاضة قوية، ولكن الثورة تحتاج لمواصلة العمل حتى لا تعود التشوهات تغطي شخصيتنا من جديد. وعودة لوزارة الثقافة فقد كانت مليئة بالفساد، حتى إنك أحيانا لا تستطيع أن تطلب من الموظفين الحضور في مواعيدهم جميعا لأن المكتب الواحد عليه عشرة معينين، وستحدث الفوضى لو جاءوا جميعا، وفكرت في حثهم على العمل بالخارج . أما عن كبار المسئولين فكنت أعلم أن عمر الوزارة قصير وأن علي حثهم على العمل بمنهج يختلف عما كان يحدث قبل الثورة . • كيف شاهدت هجوم المثقفين عليك كوزير ؟ - أظن أن من هاجموني لم يكونوا معبرين عن الجماعة الثقافية المصرية، وإنما فقط قطاع منها إضافة إلى أن المثقفين المعروفين في وسائل الإعلام لا يحتكون بالناس في الشارع، أعني أن رأيهم ليس بالضرورة انعكاسا لتوجهات الرأي العام . وعلى أية حال كما قوبلت بهجوم عنيف من قبل البعض وربما أبرزهم كان الروائي الكبير جمال الغيطاني، أيضا قوبلت بترحيب من أسماء كثيرة ومنهم الروائي الكبير بهاء طاهر والكاتب الكبير محمد سلماوي، بينما لاذ الكثيرون بالصمت خشية اتهامهم بنفاقي. وبعض من هاجمني كان ممن لم يحصل على ما يطمح به في ساقية الصاوي ومنهم من ساءه طبعي الذي يميل للتدين، فاقترحوا علي ساخرين أن أتولى وزارة الأوقاف، وحينها رحبت في حالة قبول المجلس العسكري، لأن منابر المساجد هي أكثر ما ينصت إليه المصريون ولو أصلحنا أوضاعها ستكون خدمة للوطن . • وهل كانت الستة أشهر كافية لإنجاز شيء بالثقافة ؟ - نعم .. وقد عقدت العزم على فتح كل وحدات الثقافة المغلقة، مسارح وقصور ثقافة ومكتبات؛ كان على أجندتي إلغاء الاشتراطات الأمنية التي كانت تستعمل للتربح من عناصر فاسدة بجهاز الشرطة، وقد حاولوا فعل ذلك معي شخصيا في ساقية الصاوي العام الماضي ولكني رفضت وقلت لهم تعالوا وأزيلوا الساقية ونحن والجمهور بداخلها لو استطعتم، وقد عرضوا علي بشكل رخيص رشوة صراحة وكان من غير الممكن أن أرضخ لذلك. بالطبع كنت أسعى للعمل بالإمكانيات المتاحة والقضاء على الفساد بطريقة عملية، وتغيير مفهوم الخدمة الثقافية لتصبح حقا للجمهور بلا تقسيمة لنخب وعامة، ومخاطبة النخبة فقط كما كان يحدث من قبل، لأني على قناعة بأن التقسيم المعقول، هو مؤلف ومتلقي، ولكن على مستوى التلقي لا يوجد فروق بين الناس وفي الساقية يزور معارض الفن والمسرحيات جمهور من كل المستويات بما فيها المناطق الشعبية والفقيرة . وكنت سأميز احتياجات كل مكان، فسيناء لها قضاياها الملحة غير النوبة أو الدلتا، وكذلك لكل مرحلة عمرية أساليب جذب، فلو دعوت الطفل لنشاط ثقافي يمكنك أن تدعو والدته لنشاط يناسبها بعدها، وهي فكرة تحتاج للنفس الطويل . تأخر قرارات أبو غازي • ولكن كيف يحدث ذلك والعاملون بالثقافة غير مؤهلين ؟ - هذا حقيقي ، في الدول المتقدمة نجد أن 25% من الوقت والطاقة والأموال تنفق على التدريب وبالتالي تكون النتيجة عالية الجودة . • هل حملت خططك لوزير الثقافة الحالي ؟ - كان د. عماد أبوغازي على لقاء دائم معي أثناء وجودي بوزارة الثقافة، وأبدى تعاونا حينها، وقد تناقشنا في هذه الأفكار، لكني أسأله اليوم بخصوص قرارات متأخرة : " ماذا تنتظر؟" ، فمثلا هناك من يحصل على عقود للعمل خارج الوقت الرسمي وبالشكل الذي يرونه مناسبا، وهناك مسئولون لا يتمتعون بالخبرة ولا يزالون بمواقعهم، وغيرهم ممن طال أمد وجودهم . ومن ضمن الأمثلة المزعجة أن نعلم أن أكاديمية روما بها منتدبون مصريون لمدة 22 عاما، رغم أن المنحة عمرها عامين فقط، أي أنه كان بإمكاننا إرسال 11 مثقفا بدلا من واحد فقط يظل هذه السنوات بدون أن يتعلم شيئا ليضيفه للثقافة المصرية . • تُتهم دائما بمصادرة الحريات ما سر ذلك؟ - سأروي لك مثلا، شاهدت يوما عرضا مسرحيا بالساقية تتبادل فيه ممثلتان ألفاظا جنسية خادشة للحياء ضمن النص المكتوب، فما كان مني إلا أن أوقفت العرض واعتذرت بشدة للجمهور، فجزء من حقوق الإنسان التي أدافع عنها ألا يتعرض للبذاءة بأي صورة وتحت أي مسمى، حرية الإبداع أو غيرها ، ولو قالوا لي: إننا ننقل ما يحدث في الواقع، أرد بأن من يدخل كباريه لا يتعجب من وجود سكارى بداخله، ولكن من يشاهد خشبة مسرح لا ينتظر البذاءة !. حينما استضافتني الإعلامية ريم ماجد بقناة أون تي في وهاجمتني لمواقفي من الحرية المطلقة، سألتها :" لماذا لا تعرضون أفلام عري؟" إذن لكل حرية سقف ، ولكني أشير إلى أنني كوزير لم أكن أنوي منع المواد الهابطة بقرار شخصي ولكن بقواعد يستفتى فيها مجلس الشعب والرأي العام ؛ وكنت واثقا من أن هجوم المثقفين لأن هناك من لا يبيع صفحتين من قصة قصيرة إلا بهذا الأسلوب الهابط في التعبير . إلغاء وزارة الثقافة • وما رأيك بفكرة إلغاء وزارة الثقافة ؟ - لا أرفضها مبدئيا، ويمكننا التفكير دوما فيما يفيد مجتمعنا بأي منطق إداري جديد . • لك رأي مختلف بفكرة الدولة المدنية ؟ - الدين نعمة كبرى، وليس هناك شيء اسمه دولة دينية أو مدنية، فالدولة شكل إداري له قواعده، فمباراة كرة القدم مجرد لعبة ولكن احترامي للاعب زميلي هو جزء من تقاليدها ومن الدين أيضا ، ولو فكرنا سنجد أن الله هو من ألهمنا فكرة الأخلاق، وعلمنا أن إيذاء الآخر شر، وقد صغنا الشريعة الإلهية في صورة قوانين دنيوية، ولكنها ليست من اختراعنا . لهذا فلا معنى لدولة بلا دين، لكن المهم كيف سنطبق الدين بشكل مستنير، فأنا شخصيا ليس عندي مشكلة مع الدين وهو لا يقيدني في أي فعل، وكما أنني مسلم، أدعو لكثير مما جاء على لسان عيسى عليه السلام من معان راقية للقيم الإنسانية. • كرجل أعمال كيف تحل وزارة الثقافة أزمة الموارد ؟ - لابد من ترشيد النفقات، فمثلا ليس هناك حاجة لمسابقات كلفتنا الملايين وتقيمها الساقية ب30 ألف جنيه، ويمكننا إيجاد حلول جديدة كأن نستغل اسم مصر الكبير في العالم ونخرج بمثقفينا ومفكرينا ونقيم معارض جادة عالمية لفنانين مصريين حول موضوعات السلام والثورة فبالتأكيد سيكون صداها جيدا، ويمكن الانتفاع بعوائدها في تشجيع الثقافة بالداخل.