قبل أن تقرأ: صدمة ما قاله عبدالله تفوق الوصف! أشعر بك - قارئي العزيز - وقد ضربت كفا بكف، وأخرجت آهة مكلومة وصرخة ممزوجة بالأنين واللوعة.. وختمت بتعبير مذهل عن حالة من الدهشة لافكاك منها ولو بتغيير الموضوع! وأصل الحكاية أن عبدالله - المتعايق - كما سأسميه من الآن فصاعدا.. كان أحد الجنود الذين عبروا القناة، في ذلك اليوم المجيد، يوم السادس من أكتوبر عام 1973. كانت الحرب بالنسبة لي معركة مذهلة، كسبتها القوات المسلحة، ومع هذا خذلتها السياسة الساداتية (هذا رجل لا أحبه) وصدقا أقول إنني كنت ومازلت من المؤمنين بأن سياساته خذلت السلاح في هذه الحرب المجيدة. أعود إلي «عبدالله المتعايق»، وقد اعطاني بحديثه عن الجندي المصري، احساسا مختلفا تماما.. هذا جندي من الصفوف الخلفية.. ليس قائدا، أو جنرالا، أو رتبة عليا، ولكنه من الجنود، الذين تسمع عنهم، رقم بين الأرقام، لحظة الاستشهاد، أو الإصابة بجراح نافذة، أو تسمع عنهم بين الأسري والمفقودين.. يضحون بأرواحهم ليعيش الوطن. مع كل هذا الخطر المحدق، وهذا التهديد الخطير، الذي يعيشه هؤلاء المقاتلون، الذين هم عماد الجيوش وعدتها، وقودها وقوتها، نورها ونارها، فإنهم في المعارك لا يبخلون.. بل لا يتورعون عن التسابق علي علي الفوز بإحدي الحسنيين.. النصر أو الشهادة.. وبعد ذلك يتسابقون أيضا علي رواية جوانب ولحظات من أيام المجد والفخار.. أو «يتعايقون» مثلما يفعل الآن عبدالله منسي أو عبدالله «المتعايق»، بمشاركته في العبور العظيم! أخجلني عبدالله بتباهيه و«تعايقه» بمشاركته في العبور إلي الانتصار.. ذكرني بأحمد فؤاد نجم شاعر قلب مصر، عندما أطلق علي ابنته - الشهيرة بنوارة نجم -المولودة أثناء الحرب اسم «نوارة الانتصار». أخجلني عبدالله، عندما نقلني من الحديث عن حرب أكتوبر، من خانة السياسة التي خذلت السلاح، إلي التباهي «والتعايق» بالنصر العظيم! سألت لنفسي: لماذا يتعايق عبدالله عبدالشافي بدوي وشهرته عبدالله منسي بهذه المشاركة؟ كان أحد أفراد الكتيبة 52 مهندسين، (اللواء 109 بقيادة العميد فؤاد سلطان) التي كانت مكلفة بفتح ثغرات في الساتر الترابي، الممتد من أول فتحة بني عليها نفق الشهيد أحمد حمدي (استشهد صباح يوم 11 أكتوبر وأطلق اسمه علي النفق) ابتداء بقري الشلوفة وحتي الجناين» علي طريق الاسماعيلية، وبين كل فتحة وأخري مسافة طولها واحد وربع الكيلو، ضمت عشرات المقاتلين، بقيادة المقدم محمد خليفة، وكان من شهدائها النقيب محمد الصاوي والجندي محمد لملوم وغيرهما. لماذا ولم يثبت أنه كان أول من رفع راية علي «تبة» أو علي «ضفة» أو علي موقع حصين للعدو تم اسقاطه واحتلاله؟ ولم يكن «عبدالعاطي صائد الدبابات» أو غيره ممن سجل التاريخ لهم أنهم قاموا ببطولات فردية في هذه الحرب الجهنمية.. وكأنه قد شعر بتساؤلاتي المحيرة فبادرني بالقول: الآن الظروف وضعت العسكري «فلان» في لحظة من الزمن عند «تبة» معينة، مكنته من أن يرفع راية وعلم مصر علي هذا الموقع، فان هذا يعني أنه أكثر بطولة مني، أو أنه أتي بما لم آت به وأنا شريكه في العبور في نفس السلاح ونفس اللحظة؟ أمن حقه أن يتعايق برفع العلم، أو باصابة دبابة، أو حتي «رتل» دبابات، وليس من حقي أن «أتعايق» بأننا شركاء في العبور ورفاق الانتصار؟! أيكون في الحرب أيضا محظوظون ومتعوسون؟ حتي في الحرب؟ هذا القائد يتعايق بنجمة سيناء وهذا بشهادة تكريم وتقدير، وذاك بامتيازات لاحصر لها، وأنا أحد الذين شاركوا في هذا (الهم اللي ماكنش يتلم).. وواجهت الألغام الأرضية بكل ما فيها من موت ومخاطر، وواجهت ضربات العدو الشرسة التي حصدت عشرات الأرواح، من أحبائي وزملائي، وأذكر أنني أذهب إلي مواقع أسقطناها، لأحضر لهم منها مؤنا وعتادا ولوازم التطبيب ومعالجة الجروح والأمراض، دونما مبالاة بأي مخاطر.. والتي لم تتوقف إلا بعد وقف اطلاق النار في مفاوضات الكيلو 101! في هذه الأيام رأيت بأم عيني عشرات الجرحي والمصابين والشهداء، منهم شهداء من قريتي طحانوب (قليوبية) وصادفت في مواقع أخري مجندين مثل محمد لمعي، وأشركتهم معي في هذه المؤن التي جلبتها من الموقع الاسرائيلي الذي دمرته كتيبتي أثناء عبورنا العظيم.. لكن في النهاية لم يحدث ما يرضيني ويمتعني؟ الكلام هنا للمقاتل عبدالله منسي، الذي يري أنه كان واجبا أن يمنحه الجيش ما يساعده علي التباهي و«المعايقة» خلال حياته، بمشاركته في هذه المعركة الفذة قال لي: منحوا قادتنا الأوسمة والنياشين والامتيازات والمكافآت، وتلك مسوغات تمنحهم مصداقية وتمنحهم شرفا لرواية بطولاتهم في الحرب، أما أنا وآلاف غيري ممن عبروا فلم يتركوا لنا شيئا نتعايق به سوي المشاركة في العبور! لم يمنحونا تلك المسوغات التي تجعلني لا أتردد في أن أحكي لاحفادي قصتي مع المعركة! بعد أن قرأت: يقول عبدالله بمرارة: تمنيت لو أنهم تركوا لي هذا الشرف، لكي أباهي وأتعايق به طوال حياتي.. لكنهم اختاروا لنا أنا وآلاف ممن عبروا القناة - مثل زملائي عاطف الطوخي (منيا القمح) وعادل عباس (السنبلاوين) ومصطفي ابراهيم (طنطا) وهؤلاء كانوا «صف ضباط» تطوعوا ثم خرجوا من الخدمة، أن يتركوا لنا فقط مجرد ذكريات، وغصة في الحلق، وأمل نعيش عليه، بأن يأتي يوم لرد بعض الحق إلينا؟ ألم نضع أرواحنا علي أكفنا ذلك اليوم المشهود؟ ألم نقاتل دفاعا عن الأرض والعرض؟ ألم نشارك في عبور لايزال العالم يدرسه لطلاب العلوم العسكرية في كلياته وجامعاته؟ كيف تركونا هكذا، من دون أن يحتفوا بنا، وأن يقولوا للأجيال الجديدة إن الوطن لا ينسي بطولات أبنائه كيف تركونا من دون أي مزايا، لا رواتب معقولة، ولامكافآت ولاحتي تأمين صحي، أو «أورنيك علاج».. أو حتي عضوية شرفية في أندية القوات المسلحة؟ كل ماخرجنا به هو مكافأة قدرها 17 جنيها مصريا فقط لاغير؟ أما من نظرة عطف وانصاف ورد اعتبار يا قادة جيشنا العظيم ويا سيادة رئيسنا المفدي؟