يبدو لى أن الفيلسوف هيجل كان على حق حين قال : " أننا لا نتعلم من التاريخ سوى حقيقة واحدة وهى أن المرء لا يتعلم أى شىء من التاريخ". ونحن دولة عريقة، ضاربة فى أعماق التاريخ،.. دولة صنعت حضارة عظيمة صدرتها للعالم الذى لا يزال ينعم بآثارها حتى اليوم، فكيف ولماذا لا نستفيد أو على الأقل نتعلم من تجارب التاريخ المتراكمة عندنا منذ آلاف السنين فى حل مشكلات الحاضر والمستقبل؟!! لماذا نصر بلا وعى على أن نكرر أخطاء الماضى فنحصد نفس النتائج الكارثية ولكن مضاعفة بفعل التراكم؟!،... لماذا دائما أنفاسنا مقطوعة لا نكمل السباق إلى نهايته فنقبل بالفتات وأنصاف الحلول؟ ،.. لماذا فى كل مرة يحاول شعبنا أن يكون " فاعل" مرفوع الرأس والكرامة يكتشف أنه " مفعول به"، ومضاف إليه المزيد من الظلم والقهر والإحباط. نحن فى مأزق حرج وعصيب،.. قمنا بثورة أبهرت العالم بأسره ولا مثيل لها فى التاريخ، .. ثورة أظهرت المعدن الأصيل لشعب عريق، وألهمت شعوب العالم التى تعانى من ويلات نظام العولمة والهيمنة فى عالم القطب الواحد،.. ثورة بلا قائد أو رأس أطاحت برأس النظام، وبقى النظام وفلوله التى تدافع عن ثرواتها الحرام ووجودها فى إستماتة وشراسة، .. أكبر نقطة ضعف فى الثورة المصرية فى الخامس والعشرين من يناير أنها لم تكن لها فلاسفة ومفكرين ومثقفين حقيقيين،.. كل الثورات التاريخية كان لها فلاسفة ومفكرين كانوا بمثابة أجهزة التوجيه لكتل الجماهير الثائرة،.. بنيامين فرانكلين الأمريكى كان رجل دولة، وعالما، وفيلسوفا ومخترعا وكاتبا ومفكرا، وتوماس جيفرسون – الرئيس الثالث للولايات المتحدةالأمريكية وأول وزير خارجية أمريكى فى أول حكومة أمريكية – هو الذى كتب وثيقة الإستقلال الأمريكية. أين طبقة المثقفين والمفكرين عندنا فى مصر؟ هل لا زالوا فى " الحظيرة" أم آثروا الإنضمام إلى صفوف الأغلبية الصامتة؟ وإذا كان أحد عوامل نجاح الثورة المصرية فى المرحلة الأولى هو أنها كانت بلا قائد، وبعد تولى المجلس العسكرى مقاليد الحكم فى المرحلة الإنتقالية، أصبحت الثورة مطمعا لكل سياسى محترف، أو مغامر، أو منافق ، وتسلل " الأنا" إلى داخل صفوف الثوار، ونسى بعضهم لماذا قامت الثورة أصلا، وأصبح عدد الذين يطمحون ويطمعون فى زعامة الثورة ينافس عدد الثوار الحقيقيين، وكلهم فعلا زعماء لكن فى مخيلتهم فقط ، ولا يصلحون لأن مطامعهم ورغباتهم ونزعاتهم الشخصية تفوق المصالح العليا للبلاد، ولأنهم يطلبونها ولا تطلبهم الجماهير. إن القائد التاريخى والزعيم الحقيقى هو الذى يظهر فى لحظة تاريخية معينة ومكان معين ، وهذا النوع لا يجود به الزمان إلا نادرا، والعالم كله طوال العقدين الماضيين يعانى من أنيميا حادة فى الزعماء المخلصين الحقيقيين، وآخر زعيم حقيقى فى رأيى هو نيلسون مانديللا لقد شاهدت وأنا فى كندا الرئيس السادات يجلس مع والتر كرونكايت فى إستراحة الرئاسة على سفح أهرامات الجيزة وهو يقول للمعلق التليفزيونى الأمريكى الشهير : " إننى وعبد الناصر آخر الحكام الفراعنة العظام" ، غير أن نائبه حسنى مبارك خيب ظن السادات ومكث فى الحكم مدة أطول من مدتى حكم عبد الناصر والسادات مجتمعين،.. وأثبت أنه فرعونا أكثر " فرعنة" من أسلافه،.. لكنه ليس الفرعون الأخير كما يظن معظم المصريين،.. هناك " فرعون" جديد أخطر من كل الفراعنة فى التاريخ قديمه وحديثه، .. فرعون يريد أن يفرض سيطرته وهيمنته على العالم كله بالسيطرة على جميع مصادر الطاقة فى العالم وبالعولمة الإقتصادية والعولمة العسكرية وبكل وسائل الخداع المتاحة .. هذا الفرعون الجديد هو الولاياتالمتحدةالأمريكية والتى قلبت الثورة المصرية سياساته ومخططاته الشريرة فى الشرق الأوسط رأسا على عقب، وبدرجة ربما لا يتصورها الثوار أنفسهم. الآن وبعد ستة أشهر من إندلاعها هل أصبحت الثورة المصرية الحقيقية كرة تتقاذفها كل الأقدام؟،.. أقدام أمريكية وصهيونية وإسرائيلية وعربية ومصرية كلها تريد أن تسدد الأهداف فى مرمى " مصر"؟! نحن فعلا فى مأزق حرج وعصيب، فالثورة تتعرض للكمات وضربات موجعة، وضربات تحت الحزام، ولمؤامرات من الداخل والخارج لإجهاضها، بينما مصر نفسها تحاك ضدها وضد المنطقة بأسرها مؤامرات أكبر ومخططات شيطانية سوف أتعرض لها بالتفصيل فى سلسلة حلقات أعكف على كتابتها حاليا ، سوف أكشف فيها حقيقة الإنقلاب الأمريكى على الرئيس حسنى مبارك فى محاولة للإجابة عن لماذا؟ وكيف؟ ومن الذى خطط ونفذ المؤامرة وبتفاصيل ومعلومات بعضها جديدة ومذهلة وربما صادمة، وكيف أن الثورة المصرية كانت السحر الذى انقلب على الساحر الأمريكى. نحن فعلا فى موقف حرج وعصيب،.. إنفلات أمنى وبلطجة، وإقتصاد يتدهور، وبطالة فى إزدياد، وغلاء فى كل الأسعار ، وأربع وزارات وتغييرات وزارية فى خلال ستة أشهر، وفتن طائفية ومطالب فئوية، وساسة ووزراء وعسكر ورجال دين جميعهم يقدمون لنا حلول الأمس لمشكلات اليوم، وإعلام إما مقصر أو مضلل أو مغيب ، وصراع إرادات وصراع أجندات داخلية وخارجية، وهذه ليست المرة الأولى التى تتعرض فيها مصر لإضطرابات عبر تاريخها الطويل، بل مرت عليها فترات ربما أكثر صعوبة وأشد وطأة، بل مرت عليها سنوات عجاف فى بعض الفترات.... ويذكر لنا التاريخ أنه " فى أول حكم الخليفة المستنصر توالى الوزراء دون أن يتمكن أحدهم من الإحتفاظ بمركزه طويلا وذلك لضعف الخليفة وتآمر من حوله من حاشية وجيش، حتى عمت شكوى الرعية من كثرة التغيير والتبديل فى موظفى الحكومة المسئولين وزاد الطين بلة أن اشتد النزاع بين الجند السودانية والأتراك وتغلب الترك وطردوا أعداءهم إلى الوجه القبلى فأصبح الصعيد كله فى قبضة السودانيين، واستولى الترك وحلفاؤهم من البربر على الوجه البحرى وخربوه، وتوالى القحط سبع سنين لغاية سنة 1072 فأكل الناس الخيل والحمير والكلاب والقطط حتى أتوا على آخرها". ( كتاب معالم تاريخ العصور الوسطى تأليف محمد رفعت بك، ومحمد أحمد حسونه بك صفحة 113 – طبعة 1948). لم ينقذ مصر من الخراب والدمار ومساوىء الأتراك سوى أستقدام الخليفة لحاكم عكا " بدر الجمالى" وكان أرمنى الأصل فتخلص من زعماء الأتراك بمذبحة مثل تلك المذبحة التى تخلص بها محمد على فيما بعد من المماليك، وطارد الجند السودانية فى الصعيد كله، وأستتب الأمن وأقام العدل لما يقرب من عشرين عاما، وبعد وفاته تولى إبنه الأفضل شاهنشاه الحكم وسار سيرة حكم أبيه بالعدل والحزم بضع سنوات، وبعد مقتله عادت الفوضى إلى البلاد واستمرت سنوات طويلة حتى تولى الوزارة " طلائع بن زريك" الذى لقب بالملك الصالح سنة 1154 والذى ضرب بيد من حديد على زعماء الفوضى وعاقب المجرمين، ... لقد عرفت فترات حكم بدر الجمالى والأفضل شاهنشاه وطلائع بن زريك بعصر الوزراء العظام،.. ونحن الآن فى أشد الحاجة إلى هذا النوع من الوزراء- وزراء يتميزون بالحزم والعدل ولا يعينون مستشارين يحصل بعضهم على مليون جنيه فى الشهر وإلا فسوف يأتى يوم يأكل فيه المصريون الخيل والحمير والقطط والكلاب. - أكملوا الثورة سلميا كما بدأت، وتصدوا بوعى وحزم لكل محاولات إثارة الفتن الدينية والنعرات الطائفية، واعلموا أن الطائفية هى أسوأ أنواع الوصاية على الشعوب. *كاتب صحفى مصرى – كندى [email protected]