في سرادق عزاء لشخصية مرموقة اقترب مني «الزعيم» عادل إمام يسألني وعلي وجهه تلك البسمة التي اشتهر بها قائلا: لسه بتأكل حلو يا أستاذ عباس.. ورددت وأنا أرد بسمته ببسمة مني، رغم اننا كنا نعزي في صديق فقدناه.. «أصل لم يعد لنا متعة.. إلا الطعام» وزادت بسمة الزعيم، بعد أن فهم المعني «الجواني» الذي أقصده!! حقاً نحن كبار السن ليس لنا الآن أفضل من متعة الطعام.. وما ألذ الطعام. ومن أشهر وألذ الأطباق التي عشقتها.. طبقان احدهما من الشرق الإسلامي.. وثانيهما.. من بلد أوروبي ظل لأكثر من خمسة قرون.. بلداً إسلامياً.. الأول هو «البرياني» والثاني هو البخية، أي البقية.. أو بالفصحي: الباقية. الأول إيراني النشأة.. وان امتد وانتشر شرقاً إلي الهند وباكستان والثاني أندلسي النشأة، في بلاد الأندلس.. ما سر كل طبق منهما.. البرياني طبق من الأرز مخلوط بالدجاج. أو اللحم. بالذات الغنم والبقر.. ولكن ما يزيده «لذاذة وطعامة» تلك الاضافات من البهارات والتوابل الهندية والشرقية وبالذات من الحبهان- أي الهيل- والكركم والزعفران وحبات القرنفل وقطع القرفة الحصي.. واللحم، بالعضم.. ثم كميات من البصل المحمر فوق وش الحلة، وبالهنا والشفاء.. ولأن البرياني من الأطباق التي لا تحتاج إلي أوعية كثيرة لإعداده.. فإنه اشتهر.. وانتشر فيما بين بلاد ما وراء النهر أو وراء النهرين سيحون وجيحون أو ما وراء دجلة شرقاً رغم أن موطنه الأصلي هو بلاد فارس أي إيران إلي أن حمله الإيرانيون والأفغان والحبوش إلي الجزيرة العربية وبالذات دول وإمارات الخليج العربي، وعُمان.. وعشقت هذا الطبق وأكلته مراراً عندما كانت أسرتي تعود إلي القاهرة لإجازة الصيف.. أكلته في أبوظبي بطعم. وأكلته في دبي بطعم آخر. وعشقته أكثر في الشارقة أو رأس الخيمة وحتي ساحل الفجيرة علي شواطئ خليج عمان، من بحر العرب الذي هو من المحيط الهندي، وبالذات في كلباء وخورفكان. وبسبب تنوع التوابل التي تستخدم في إعداده.. تنوع طعم البرياني، في كل إمارة.. ووالله مازلت أحن لطبق البرياني، ولذلك كلما زرت الإمارات.. أنطلق أبحث عن مطعم إيراني، أو هندي أو باكستاني، أو بلوشي لأتناول طبق البرياني، الأكثر قرباً إلي روعة المطبخ الشرقي.. بسبب توابله!! وإذا كان البرياني طبقاً صحراوياً ولذلك فإن اللحم والدجاج- مع الأرز- هما أساس هذا الطبق.. فإن «البخية» أو البقية، أو البهية باللغة الإسبانية طبق بحري يعتمد علي الأكلات البحرية.. والبهية يلعب الأرز- الاسباني وهو أقرب أنواع الأرز إلي الأرز المصري- المكون الأساسي في هذا الطبق.. ولكن الاسبان يستخدمون منتجات البحر محل اللحوم البرية.. وبالذات منتجات المحار والجمبري والقواقع وبلح البحر والجندوفلي.. وقليل من لحم الدجاج.. والبهية.. طبق إسلامي في الأصل.. فقد عاش المسلمون وحكموا الأندلس حوالي خمسة قرون. وأصله هو «البقية» إذ كانت ربة البيت تجمع كل «بواقي» الطعام، علي مدي الأسبوع.. ولا تلقي بها. بل تعيد طبخها من جديد، ولكن بعد أن تضيف عليها الكثير من التوابل.. ولا تنسي الكركم والحبهان وقطع القرفة والقرنفل.. لكي تكسبه طعماً مقبولاً ليقبل عليه أهل الدار. ونقل الاسبان المحدثون هذا الطبق. وأتقنوا تقديمه يومي السبت والأحد.. أي بواقي طعام الأسبوع السابق.. ولكن أجود ما فيه هو هذه المحار والقواقع والجندوفلي والجمبري بحكم أن اسبانيا محاطة بالبحار من الشرق- حيث البحر المتوسط- ومن الجنوب حيث مضيق جبل طارق ومن الغرب بالمحيط الأطلنطي، ومن الشمال الغربي بخليج بسكاي.. وكلها من أغني بحار العالم بهذه المنتجات البحرية.. ولعشقي لهذا الطبق اللذيذ، كنت أتعمد أن تأتي زياراتي لأسبانيا في أيام تتوسطها السبت والأحد، لكي أنعم بهذا الطبق الشهي.. وبالذات لأنه يقدم فقط في اسبانيا، أيام الاجازات هذه.. وما ألذ أن تجد مطعماً علي واجهته ثلاث ملاعق وشوك، بدلاً من ثلاثة نجوم، دلالة علي أن هذا المطعم من درجة ثالثة.. أي الوسطي. فإذا دخلت وقفت طالبا من الطباخ.. طبقين، وليس طبقاً واحداً. أحمل أولهما وأضعه في فرن التسخين حتي لا يفقد حرارته.. وأحمل الآخر إلي مائدتي.. وهات يا أكل.. ودائماً ما كنت أرجو الطباخ أن يكثر من المحار وسط الأرز أصفر اللون، أي الذهبي.. ولا أشبع- في اسبانيا- إلا عندما يكون طعامي هو طبق.. البهية أو البقية.. ثم أخرج من المطعم.. «وأتمشكح» في شوارع وميادين مدريد لأمتع نظري بالتماثيل في كل مكان.. كما تمتعت بطبق البخية.. والبرياني والبخية.. هو كشري هذه الشعوب!! بالذمة.. فيه ألذ من كدة.. يا زعيم الفن المصري.