خد عينية وشوفوا بيها.. هتلاقيه أجمل وأجمل.. ربما بهذه الكلمات الرقيقة اقنع محمد رفاعي من حوله بأن «نوسة» التي اختارها قلبه ستكون سمعه الذي حُرم منه وصوته الذي اختنق في حلقة منذ سنوات الطفولة الأولي كانت له مودة ورحمة عبر أربعين عاما من تفاصيل الحياة بحلوها ومرها، وكان بالنسبة لها الدنيا وما فيها.. كان مزيجا من اغنيات الأمل وانين الصعاب ملأ الصمت الرهيب الذي سكن حياتها منذ الصغر.. ونس وترانيم عذبة وضحكات ثلاثة من الأبناء هم في الحقيقة ربيع عمرها.. صاروا الآن زينة الشباب واكتملت معزوفة الحب والكفاح بقدوم «أعز الولد» أنس الحفيد الذي توج رحلة العمر الطويلة بأحلي المكافآت حصلت علي بكالوريوس تجارة قسم نظم ومعلومات وهي التي تولت ترجمة ما يقوله الأب والأم تعشق التصوير الفوتوغرافي كما انها تعمل كخبيرة إشارات متطوعة في الجمعية التي تضم الأبوين مع كثير من الشباب من الصم والبكم الذين يحتاجون مساعدتهم. يتذكر «محمد» كيف التقي شريكة حياه قبل حوالي 40 عاما في مترو مصر الجديدة كانت هي متوجهة الي الجمعية بميدان المحكمة حيث تتعلم الخياطة بينما كان يتعلم «الخراطة» بالإضافة لعمله كرسام ومصمم رسومات الأقمشة.. يبتسم الأب ويرجع بذاكرته للوراء ويحاول أن يحكي لنا بصوته وإشارات يديه التي شرحتها لنا سمر: كنت ارتدي قميصا طبعت رسوماته بنفسي كأنه قصاصات من الصحف في حين كانت تحاول هي قراءتها وعندما ألمحها تدير وجهها بسرعة.. كانت تحدث صديقتها بلغة الإشارة فعلمت أنها من الصم والبكم وفي إحدي المرات قابلت صديقا لي ومنعته من أن يحدثني بالإشارة فكنت لا أرغب في أن تعلم بأني مثلها. لكنها علمت فيما بعد عندما رشحها لي أصدقائي كما فعلت صديقاتها، المشكلة الأكبر كانت في والدي الذي رفض زواجنا دون أن يراها لأنه في الأساس كان رافضا لحالتي لدرجة أنه ألحقني بمدرسة عادية في البداية ثم بعدها بمدرسة حلوان للصم والبكم، وكان يمنعني من التحدث بالإشارة حيث كنت أتمتع بنسبة سمع بسيطة، لكنني أصررت علي الارتباط بها، ورفضت الزواج من إنسانة تسمع وتتكلم لأنني أدركت أن الأمر سيكون شديد الصعوبة فعاقبني والدي بعدم مساعدتي في الزواج رغم علمه بعد ذلك أنها ابنة صديقه عندما تقابلا بالصدفة وكل منهما كان يخفي عن الآخر أن لديه ابنا لا يسمع ولا يتكلم. وهنا تنظر الأم اليه بكل حب كأنها تتذكر كيف طوي السنين في كفاح وشقاء من أجل تأسيس عش الزوجية. ويستطرد الأب: كان مرتبي وقتها 6 جنيهات ونصف الجنيه، فسافرت الي الأردن ثم العراق عملت في أعمال المقاولات ويبتسم عندما يخبرنا أن صاحب العمل هناك عندما اكتشف أنه من الصم والبكم قال «حرام» هشغله مش همشيه، وبعدما وقعت الحرب كنت قد ادخرت 17 ألف جنيه أنفقت أكثر من نصفها كي أستطيع العودة الي مصر لكننا استطعنا أن نبني شقة بسيطة في منزل العائلة بعد 7 سنوات خطوبة ورضيت «نوسة» بإمكانياتي لأنها علمت أني مخلص وأحبها حقا وعندما أنجبنا ابنتنا الكبري ياسمين، فرح أبي جدا لأنها كانت عادية وتسمع وتتكلم وعرض علي وقتها المساعدة لكني رفضت واعتمدت علي نفسي وعملت زوجتي أيضا في شركة أدوية.. وهنا سألت كيف تمكن الأبناء الثلاثة من تعلم الكلام من أبوين يعانيان من هذه المشكلة، وهنا أشارت الأم وترجمت سمر: أهلي وأهل زوجي كانوا يتولون رعاية الأبناء خاصة أنني كنت طول الوقت في الشغل «ليل ونهار» كانت المرتبات ضعيفة والحياة صعبة ولابد أن نعمل أطول وقت ممكن حتي نوفر لأولادنا حياة كريمة ومنزلا مستقلا ونعلمهم علي أفضل ما يكون.. ومن هنا فالأبناء نشأوا في أحضان الأخوال والأعمام والعمات وتعلموا الكلام. قالت سمر: المسألة ليست صعبة علي الإطلاق فمعظم الإشارات نستخدمها من الأصحاء ثم إن أمي وأبي كانا يستطيعان إصدار بعض الأصوات أشبه بالكلام وإشارتهم لا تختلف عما يستخدمه الآباء العاديون كإشارة الطعام بوضع اليد بالقرب من الفم. لكن هناك تعاملات وإجراءات خاصة بنا في البيت لتسهيل الحياة علي أبي وأمي وعلي سبيل المثال هناك لمبات موصلة بجرس الباب في كل مكان بالشقة لتنبيهما الي وجود أحد بالخارج. مسحت الأم علي رأس ابنتها بحنان بالغ وقالت بلغة الإشارة: هم أجمل مكافأة في حياتي عندما أري زوجي وأولادي يهون علي شقاء سنوات طويلة من عمري ومعاناة في العمل وشغل البيت والتعامل مع الناس خاصة أن ذوي الاحتياجات الخاصة لا يجدون أي رعاية رغم أن لهم حقوقا. سألتها: ألم تساورك أي مخاوف من إنجاب أبناء يعانون نفس معاناتك؟ قالت: أبدا.. اعتبرت محمد هدية من ربنا وخليتها علي الله، وزي مانت شايفة عيال زي القمر هم ثروتي الحقيقية ونور عيني. هان عليّ التعب والشغل وكانت المرتبات ضعيفة والحياة صعبة لكني وضعت يدي في يد زوجي واتفقنا علي ان نعتمد علي الله. وأعاننا فعلا علي تربية أبنائنا وحصلوا جميعا علي مؤهلات عليا ورزقنا الله بالحفيد أنس.. وهمت الأم بإحضار صورة حفيدها وقبلتها وأزرفت دمعة دافئة كأنها تقول له وحشتني ووحشتني ياسمين. ربت الأب بحنو علي كتف زوجته كأنه يشاركها شعورها ويعينها عليه وقال: لدينا أمل كبير أن ينظر المجتمع الينا نظرة مختلفة وأن تتحسن الأحوال بالنسبة للجميع لأن المصريين بشكل عام عانوا كثيرا فضلا عن تهميش ذوي الاحتياجات وعدم مراعاة حقوقهم في العمل أو الشارع، ولذلك نشارك الآن في ضوء أي قرار بالنزول الي انتخاب أو استفتاء، وأراد الزوج والأب أن تصل رسالة شديدة البلاغة هو أن الأسرة الناجحة ليست حكرا علي من يتمتعون بكافة حواسهم، فقد تفقد أحدها وتكون زوجا وأبا ناجحا وتصنع بيتا ملؤه الحب والحنان والنجاح أيضا.