"التسامح الحق لا يستلزم نسيان الماضي بالكامل، العظمة في هذه الحياة ليست في التعثر، ولكن في القيام بعد كل مرة نتعثر فيها، الحرية لا يمكن أن تعطى على جرعات، فالمرء إما أن يكون حرّاً أو لا يكون حرّاً، "الشخص الذي يسلب حرية شخص آخر هو أسير الكراهية، يقف وراء قضبان التحيز وضيق الأفق...المضطَهد والمضطِهد كلاهما سلبا إنسانيتهما". هذه بعض الكلمات لرمز الحرية والنضال نيلسون مانديلا، الرئيس الأسبق لجنوب أفريقيا، الذي قلما يجود الزمان برجل مثله. ويشهد اليوم 18 يوليو ذكرى ميلاده، وانطلاق رحلة الزعيم البطل منذ نعومة أظافره ليقكر في شعبه وتحريره من نيران العبودية والاستعمار، والعنصرية الذي حط على صدورهم ردحا من الزمن. نشأته: ولد مانديلا في عام 1918 في قرية “ميزو” بمنطقة ترانسكاي بجنوب أفريقيا، وكان أول من تعلم في عائلته، وسمي بنيلسون بعد أن اطلق معلمه عليه هذا الاسم لصعوبة نطق اسمه الحقيقي “روليهلاهلا". سمَّاه أبوه عند ولادته دوليهلاهلا، ومعناه باللغة الأفريقية “المشاغب” قبل أن يطلق عليه بمدرسة الإرسالية الابتدائية اسم “نيلسون” الذي اشتهر به فيما بعد. كان والد مانديلا رئيسا لقبيلة التيمبو الشهيرة، وتوفى وهو لا يزال صغيرا، وتربى على قصص البطولات والملاحم لأجداده قبل أن يُنتخب مكان والده رئيسا للقبيلة. دخل المدرسة الابتدائية وأكمل دراسته بمدارس الإرسالية، وبعدها التحق بالجامعة فى كلية فورت هارى قبل أن يُطرد منها بسبب مشاركته بالاحتجاجات الطلابية على سياسة التمييز العنصري مع رفيقه أوليفر تامبو عام 1940 حتى حصل على ليسانس الحقوق. بداية رحلة النضال : كانت جنوب أفريقيا خاضعة لحكم يقوم على التمييز العنصري الشامل من طرف البيض، وأحس مانديلا أثناء دراسته الجامعية بمعاناة شعبه فانضم إلى حزب المجلس الوطني الأفريقي المعارض للتمييز العنصري عام 1944. ولم يلبث أن لعب دورا حاسما فى تحويل الحزب إلى حركة جماهيرية شاملة لمختلف فئات الأفارقة، وساعد في إنشاء “اتحاد الشبيبة” التابع للحزب وأشرف على إنجاز خطة التحرك، وهى بمثابة برنامج عمل للاتحاد وقد تبناها الحزب عام 1949. وبدأ الحزب عام 1952 ما عُرِف “بحملة التحدي” وكان مانديلا مشرفا مباشرا عليها، فجاب البلاد محرضا على مقاومة قوانين التمييز العنصري، فصدر حكم بسجنه مع وقف التنفيذ، لكن الحكومة اتخذت قرارا بمنعه من مغادرة جوهانسبرغ ستة أشهر. وأمضى تلك الفترة في إعداد خطة حولت فروع الحزب إلى خلايا للمقاومة السرية. وفي نفس الوقت افتتح مانديلا مع رفيقه أوليفر تامبو أول مكتب محاماة للأفارقة في جنوب أفريقيا، وقد زادته مهنة المحاماة عنادا وتصلبا في مواقفه. وعرف عن مانديلا تأثره كثيرا بأسلوب الزعيم الهندي المهاتما غاندى الداعي لعدم استخدام العنف واتباع الأسلوب السلمي بالمقاومة. اعتقال نيلسون مانديلا: وبعد أحداث مذبحة شاريفيل عام 1960 التي أطلق فيها رجال الشرطة النار على المتظاهرين ليسقط المئات من القتلى والجرحى، حظرت السلطات كافة نشاطات حزب المجلس الوطني الأفريقي، واعتُقِل مانديلا حتى عام 1961. وبعد الإفراج عنه قاد المقاومة السرية التي كانت تدعو إلى ضرورة التوافق على ميثاق وطني جديد يعطى الأفارقة حقوقهم السياسية. وعام 1962 غادر مانديلا إلى الجزائر لترتيب دورات تدريبية لأفراد الجناح العسكري بالحزب، وبعد عودته ألقى القبض عليه بتهمة مغادرة البلاد بطريقة غير قانونية، والتحريض على الإضرابات وأعمال العنف، وقد تولى الدفاع عن نفسه بنفسه. وهنا يقول مانديلا “أثناء محاكمتي دخلت قاعة المحكمة بملابس الكوسا المصنوعة من جلد النمر، وقد اخترت هذا الزى لأبرز المعنى الرمزي لكوني رجلا أفريقيا يحاكم في محكمة للرجل الأبيض، وكنت أحمل على كتفي تاريخ قومي وثقافاتهم، وكنت على يقين أن ظهوري بذلك الزى سيخيف السلطة من ثقافة أفريقيا وحضارتها”. الحكم بالمؤبد على المناضل نيلسون: حكم عليه بالسجن خمس سنوات، وبعد ثلاثة أعوام وهو بالسجن حكم عليه مرة أخرى بالسجن المؤبد، ومنذ ذلك الحين تحول مانديلا إلى الرمز العملاق لسجين مقاومة التمييز العنصري. مانديلا يرفض التخلي عن المقاومة: وفى فترة السبعينيات رفض نيلسون مانديلا عرضا بالإفراج عنه مقابل عودته لقبيلته فى ترانسكاي والتخلي عن المقاومة، كما رفض عرضا بالثمانينيات مقابل إعلانه رفض العنف. مانديلا يوقف الصراع المسلح ويتولى رئاسة بلاده وعند الإفراج عنه عام 1990 أعلن وقف الصراع المسلح وقاد المفاوضات مع سجانيه السابقين للانتقال بالبلاد إلى الديمقراطية، وهو ما انتهى بانتخابه كأول رئيس أفريقي للبلاد عام 1994. وعام 1999 أعلن عن رغبته فى التقاعد بعد فترة حكم واحدة. وشغل مانديلا نفسه بعد التقاعد بالأعمال الخيرية ومن بينها مؤسسة مانديلا الخيرية لمكافحة الإيدز، وصندوق نيلسون مانديلا للطفولة. أهم الجوائز التي حصل عليها: وحصل مانديلا على أكثر من مائة جائزة دولية تكريما له أبرزها نوبل للسلام عام 1993، وجائزة منظمة العمل الدولية لسفراء الضمير عام 2006، إلى جانب العديد من شهادات الشرف الجامعية، وتلقى عددا كبيرا من الميداليات والتكريم من رؤساء وزعماء دول العالم. وعام 2005 اختارته الأممالمتحدة سفيرا للنوايا الحسنة. من أقواله: يقول الزعيم الأفريقي بكتابه الشهير “رحلتى الطويلة فى طريق الحرية”: عندما خرجت من السجن كانت مهمتى تتمثل فى تحرير الظالم والمظلوم معا. ولكنه يعترف: إننى ارتكبت بعض الأخطاء.. لكنى اكتشفت سرا مفاده أن المرء ما إن ينتهى من تسلق تل شامخ إلا ويتبين له أن هناك العديد من التلال الأخرى بانتظاره. وفاته: توفي مانديلا في الخامس من ديسمبر 2013 عن 95 عاما، وشارك في تشييعه أكبر حشد من قادة العالم، ووري الثرى في مسقط رأسه بعد وفاته ب 10 أيام.