يحتفل العالم غدا الاثنين باليوم الدولى لنيلسون مانديلا الذى يوافق أيضا عيد ميلاده ال 93 ، هذا اليوم اختارته الجمعية العامة للأمم المتحدة فى الثانى من نوفمبر عام 2009 تقديرا لكفاح مانديلا من أجل الديمقراطية على الصعيد الدولى وفى الترويج لثقافة السلام وتدعيما لدعوته باستغلال عيد ميلاده فى فعل الخير. ودعا الأمين العام للأمم المتحدة بان كى مون فى رسالة وجهها بمناسبة هذا اليوم إلى تشجيع الناس أن يكرسوا 67 دقيقة من وقتهم للخدمة العامة فى يوم مانديلا أى دقيقة واحدة عن كل سنة من السنوات التى قضاها مانديلا فى خدمة البشرية ، فقد قال مانديلا " فى وسعنا أن نغير العالم ونصنع منه مكانا أفضل ، وفى متناول كل واحد منكم أن يحدث هذا التغيير ، لذلك طالب الأمين العام بتلبية هذا النداء بتعليم طفل ، أو إطعام جائع أو بالتطوع لبعض الوقت فى مستشفى محلى أو مركزاجتماعى، وأن نجعل من العالم مكانا أفضل" . ففى تاريخ الأمم رجال يقفون شموعا مضيئة تنير الطريق للجموع حولها ، بالإضافة للتنوير الذى تنشره فى روح الأمة وتزهو بهم الإنسانية وتفخر السير الذاتية بمذكرات نضالهم المشرف ضد قوى الظلام والشر ، وهنا يقف نيلسون مانديلا كأشد مصادر الضوء التى محت ظلام العنصرية من القارة الإفريقية . لقد سطر الزعيم الإفريقى نيلسون مانديلا اسمه بحروف من نور فى تاريخ جنوب إفريقيا ، فقد تحول المناضل الصلد مانديلا من مواطن جنوب إفريقى يصارع نظاما عنصريا بغيضا إلى مواطن عالمى يسارع زعماء العالم إلى الوقوف جوار هامته العالية ، حيث ضرب مانديلا أروع القصص ، بل أروع الملاحم فى التضحية . وكما قال مانديلا إن تكون حرا لايعنى مجرد التحرر من الأغلال، ولكن أن تعيش وفق نمط حياة تعزز من خلاله حرية الأخرين وتحترمها، كلمات تختزل نضالا دام سنوات طويلة سجن خلالها نحو 27 عاما من أجل قضية شعبه المطالب بالمساواة والحق فى الحرية والحياة الكريمة على أرضه ، وخرج بعد هذا الزمن الطويل من السجن ليتولى حكم البلاد لفترة رئاسية واحدة أرسى خلالها الأسس السليمة الراسخة لقيام دولة ديمقراطية تكاد أن تكون الوحيدة فى القارة الإفريقية بأسرها ليسلم الراية بعد ذلك لجيل أخر ليقود دفة البلاد وسفينتها التى أحسن صنعها ، ولتشهد جنوب إفريقيا توالى ثلاثة رؤساء على حكم البلاد خلال عقدين من الزمن فقط، وهو أمرلا ينافسها فيه إلا عدد قليل من الدول الغربية الديمقراطية العريقة وحياة نيلسون مانديلا حافلة بالأحداث الجسام ومليئة بالأيام الخالدة ، فقد ولد فى بلدة صغيرة تدعى " قونو " فى منطقة ترانسكاى فى جنوب إفريقيا فى 18 يوليو عام 1918 ، واسمه عند الميلاد هو دوليهلاهلا ومعناه حرفيا باللغة الإفريقية " المشاغب " ، وكان والده رئيسا لقبيلة التيمبو الشهيرة ، وتوفى وهو لايزال صغيرا ، وتربى على قصص البطولات والملاحم لأجداده وانتخب مانديلا مكان والده . وكان مانديلا من الأطفال السود القلائل الذين استطاعوا دخول المدرسة الابتدائية وأكمل دراسته فى مدارس الإرسالية وهناك اختاروا له اسما إنجليزيا وهو نيلسون لأن الأساتذة البيض كانوا يجدون صعوبة فى نطق الأسماء الإفريقية ، وبعدها التحق بالجامعة فى كلية فورت هارى ، وقد طرد منها بسبب مشاركته فى الاحتجاجات الطلابية على سياسة التمييز العنصرى مع رفيقه أوليفر تامبو عام 1940 ، عاش مانديلا فترة دراسية مضطربة وأكمل دراسته بالمراسلة فى جوهانسبرج حتى حصل على ليسانس الحقوق . كانت جنوب إفريقيا خاضعة لحكم يقوم على التمييز العنصرى الشامل من طرف البيض تجاه السود وأحس مانديلا أثناء دراسته الجامعية بمعاناة شعبه، فانضم إلى حزب المجلس الوطنى الإفريقى المعارض للتمييز العنصرى عام 1944 ، ولم يلبث أن لعب دورا حاسما فى تحويل الحزب إلى حركة جماهيرية شاملة لمختلف فئات السود ، وساعد فى إنشاء " اتحاد الشبيبة " التابع للحزب وأشرف على إنجاز خطة التحرك وهى بمثابة برنامج عمل لاتحاد الشبيبة وقد تبناها الحزب عام 1949 . وبدأ الحزب عام 1952 ماعرف " بحملة التحدى " وكان مانديلا مشرفا مباشرا عليها ، فجاب البلاد محرضا الناس على مقاومة قوانين التمييز العنصرى، فصدر ضده حكم بالسجن مع عدم التنفيذ ، ولكن الحكومة اتخذت قرارا بمنعه من مغادرة جوهانسبرج لمدة ستة أشهر، وقد أمضى تلك الفترة فى إعداد خطة حولت فروع الحزب إلى خلايا للمقاومة السرية وفى نفس الوقت افتتح مانديلا مع رفيقه أوليفر تامبو أول مكتب محاماة للسود فى جنوب إفريقيا وقد زادته مهنة المحاماة عنادا وتصلبا فى مواقفه ، ويقول نيلسون مانديلا عن هذه الفترة من حياته إنه تأثر كثيرا بأسلوب غاندى الداعى لعدم استخدام العنف وإتباع الأسلوب السلمى فى المقاومة . وبعد أحداث مذبحة شاريفيل عام 1960 التى أطلق فيها رجال الشرطة النار على المتظاهرين ليسقط المئات من القتلى والجرحى وتم حظر كل نشاطات حزب المجلس الوطنى الإفريقى واعتقل مانديلا حتى عام 1961 ، وبعد الإفراج عنه قاد المقاومة السرية التى كانت تدعو إلى ضرورة التوافق على ميثاق وطنى جديد يعطى السود حقوقهم السياسية ، وفى نفس الوقت أنشأ مانديلا وقاد مايعرف بالجناح العسكرى الذى نفذ عمليات تخريبية ضد مؤسسات حكومية وإقتصادية للبيض. وفى عام 1962 غادر مانديلا إلى الجزائر لترتيب دورات تدريبية لأفراد الجناح العسكرى فى الحزب ، وبعد عودته ألقى القبض عليه بتهمة مغادرة البلاد بطريقة غير قانونية ، والتحريض على الإضرابات وأعمال العنف ، وقد تولى الدفاع عن نفسه بنفسه " وهنا يقول مانديلا أثناء محاكمتى دخلت قاعة المحكمة بملابس الكوسا المصنوعة من جلد النمر ، وقد اخترت هذا الزى لأبرز المعنى الرمزى لكونى رجلا إفريقيا يحاكم فى محكمة للرجل الأبيض ، وكنت أحمل على كتفى تاريخ قومى وثقافاتهم وكنت على يقين أن ظهورى بذلك الزى سيخيف السلطة من ثقافة إفريقيا وحضارتها " ، بهذه الكلمات أكد مانديلا أنه يستحق أن تكون حياته مصدر إلهام للمظلومين فى سائر الأرض . ولكن حكم عليه بالسجن لخمس سنوات ، وبعد ثلاثة أعوام وهو فى السجن حكم عليه مرة أخرى بالسجن المؤبد ومنذ ذلك الحين تحول مانديلا إلى الرمز العملاق لسجين مقاومة التمييز العنصرى وقد تمسك مانديلا بمواقفه وهو داخل السجن وكان مصدرا لتقوية عزائم المسجونين ، وفى السبعينيات رفض عرضا بالإفراج عنه مقابل عودته إلى قبيلته فى ترانسكاى والتخلى عن المقاومة ، كما رفض عرضا آخر فى الثمانينيات مقابل إعلانه رفض العنف . وعند الإفراج عنه عام 1990 أعلن وقف الصراع المسلح وقاد المفاوضات مع سجانيه السابقين للانتقال بالبلاد إلى الديمقراطية، وهى عملية انتهت بانتخابه كأول رئيس أسود للبلاد فى عام 1994 وأعلن عن رغبته فى التقاعد عام 1999 بعد فترة حكم واحدة . وشغل مانديلا نفسه بعد التقاعد بالأعمال الخيرية ومن بينها مؤسسة مانديلا الخيرية لمكافحة الإيدز ، وصندوق نيلسون مانديلا للطفولة . وقد حصل مانديلا على أكثر من 100 جائزة دولية تكريما له أبرزها جائزة نوبل للسلام عام 1993 ، وجائزة منظمة العمل الدولية لسفراء الضمير عام 2006 ، إلى جانب العديد من شهادات الشرف الجامعية ، وتلقى عددا كبيرا من الميداليات والتكريمات من رؤساء وزعماء دول العالم ، وفى عام 2005 اختارته الأممالمتحدة سفيرا للنوايا الحسنة . ويقول نيلسون مانديلا فى كتاب الشهير " رحلتى الطويلة فى طريق الحرية " عندما خرجت من السجن ماشيا على قدماى ، كانت مهمتى تتمثل فى تحرير الظالم والمظلوم معا ، لقد مشيت فى ذلك الطريق الطويل من أجل بلوغ الحرية ، محاولا أن أحافظ على رباطة جأشى، صحيح أننى ارتكبت بعض الأخطاء فى تقدير خطواتى أحيانا ، لكنى اكتشفت سرا مفاده أن المرء ما إن ينتهى من تسلق تل شامخ إلا ويتبين له أن هناك العديد من التلال الأخرى بانتظاره.