تشهد مصر خلال الأشهر القليلة القادمة استكمال الاستحقاق الثالث من خارطة المستقبل السياسي وهي الانتخابات التشريعية الخاصة بمجلس النواب، التي تمثل أهمية خاصة للتطور السياسي المصري وتعبر عن استكمال عملية البناء المؤسسي في مصر بعد الاستفتاء على الدستور والانتخابات الرئاسية، ويمثل مجلس النواب القادم أهمية خاصة ومحورية بالنسبة لمصر سواء من حيث التوقيت أو من حيث المهام المتعددة الملقاة على كاهله من الناحية التشريعية والرقابية في الظروف الدقيقة التي تمر بها البلاد،ويثير ذلك أيضا التساؤل عن الخريطة الحزبية في البرلمان القادم وكيفية تمثيل الأحزاب المختلفة في داخله ومدى قوة وقدرة هذه الأحزاب كمؤسسات سياسية ومدى استطاعتها التعبير عن المطالب الشعبية ،وقدرتها على قيادة سفينة الوطن إلى بر الأمان وانعكاس ذلك على الحكومات التي تتشكل عقب الانتخابات البرلمانية وعلاقة ذلك كله بقانون الانتخابات النيابية، ويمكن في هذا الإطار الإشارة إلى الملاحظات التالية: أولاً: التعددية المبالغ فيها في الأحزاب السياسية المتواجدة في مصر، فقد بلغ عدد الأحزاب السياسية المصرية قبل ثورة 25 يناير 24 حزباً وتزايد هذا العدد عقب ثلاثة سنوات ونصف من ثورة يناير ليتجاوز 80 حزباً ومازال عدد الأحزاب مرشحا للزيادة باستمرار، ويعكس ذلك ما يمكن أن نطلق عليه التشظي الحزبي أي ليس مجرد تعددية فقط وإنما هي تعددية مبالغ فيها، ولعل المفارقة هنا أنه على الرغم من هذه التعددية المبالغ فيها إلا أن الأحزاب في معظمها ضعيفة وغير معروفة للمواطن العادي الذي يجهل العديد من أسماء هذه الأحزاب وبرامجها وربما يمكن تفسير هذا الضعف للعديد من الأحزاب السياسية بالعوامل الآتية: أ - تجريف الأحزاب السياسية، فخلال عدة عقود أعقبت نشأة التعددية الحزبية في مصر منذ عام 1976 كان هناك اتجاه مستمر نحو الحفاظ على التعددية الحزبية من حيث الشكل بينما تكون هناك سيطرة هائلة لحزب وحيد رغم هذه التعددية الشكلية وهو ما يمكن أن نطلق عليه نظام الحزب المسيطر أو الحزب المهيمن والذي اعتمد سياسة ممنهجة لإضعاف الأحزاب الأخرى. ب - حداثة نشأة العديد من الأحزاب السياسية فقد نشأ معظم هذه الأحزاب عقب ثورة 25 يناير، ولم تأخذ معظم هذه الأحزاب فرصتها في النمو والنضج كمؤسسات سياسية قادرة وفعالة. ج - تعددية الأحزاب السياسية المعبرة عن الاتجاه السياسي الواحد ،حيث توجد العديد من الأحزاب السياسية المعبرة عن اتجاه اليمين وكذلك العديد من الأحزاب المعبرة عن تيار اليسار وهكذا مما أسهم في النهاية في إضعاف هذه الأحزاب. ثانيا: خريطة مجلس النواب القادم، فمن المتصور في حالة استمرارية الأوضاع الحزبية على ماهي عليه من حيث التعددية المفرطة في أعدادها أنه لن يستطيع أي حزب بمفرده الحصول على الأغلبية المطلوبة لتشكيل الحكومة، ويمكن في هذا الإطار الإشارة إلى السيناريوهات التالية: أ - سيناريو انتقال التشظي الحزبي إلى داخل مجلس النواب أي يحصل كل حزب على عدد محدود من المقاعد داخل مجلس النواب مما يعكس درجة من التفتت السياسي وصعوبة التوافق على السياسات والتشريعات، كما أن قد يؤدي إلى وجود صعوبة في تشكيل الحكومات والتي ستكون ائتلافية وتتسم بعدم الاستقرار. ب - سيناريو حصول المستقلين على أغلبية المقاعد في مجلس النواب في ظل قانون الانتخابات النيابية الحالي (إذا لم يتم تعديله) الذي يعطي نسبة تقارب 80% للنظام الفردي بينما يعطي نسبة الخمس تقريبا لنظام القوائم الحزبية، ويثير ذلك مشكلة كبيرة في تشكيل الحكومة عقب الانتخابات النيابية خصوصا أن القانون يمنع تغيير النائب لصفته الحزبية التي ترشح على أساسها، بمعني إنه لا يجوز وفقا للقانون أن يتحول المرشح المستقل إلى الانضمام إلى حزب من الأحزاب القائمة. ج - السيناريو الأفضل من وجهة نظر المصلحة الوطنية، وهو أن يتشكل تكتل حزبي يخوض الانتخابات، ويستطيع أن يحصل على أغلبية مقاعد مجلس النواب ويشكل الحكومة ويسهل عملية إصدار القوانين والتشريعات. ثالثاً: مقترحات مستقبلية للحد من التعددية الحزبية المبالغ فيها،فالمطلوب في جميع الأحيان الحفاظ على التعددية الحزبية ولكن في إطار من المعقولية وبحيث لا تكون هذه التعددية مفرطة أو مبالغ فيها، وقد يكون من المرغوب فيه وضع ضوابط تنظيمية في نشأة الأحزاب السياسية ومن ذلك على سبيل المثال إن أي حزب جديد لابد أن يختلف في أفكاره وبرامجه عن الأحزاب القائمة ،واشتراط عدد معقول من الأعضاء لضمان الجدية للأحزاب ،فضلا عن التواجد المكاني أي يكون للحزب مقار في محافظات الجمهورية المختلفة أو في معظمها حتى لا تكون الأحزاب كرتونية أو مظهرية،وربما يتطلب الأمر أيضاً النظرة الفاحصة لقانون الأحزاب السياسية لضمان توافر هذه العوامل المهمة. وأخيراً فإن لمجلس النواب القادم أهمية خاصة ومحورية فهو الذي سيحول مواد الدستور إلى تشريعات وقوانين يشعر بها المواطن العادي وينعكس عليه ايجابيا وهو الذي سيقوم بإصدار القوانين المكملة للدستور ،وهو الذي سيصدر القوانين والتشريعات المنفذة للمشروعات القومية المعبرة عن آمال وطموحات شعب مصر العظيم، وهو الذي سيمارس مهام واختصاصات مهمة وكبيرة مخولة له بموجب الدستور، وسيسهم في التغلب على المصاعب والعقبات التي تواجه الوطن، وليعمل الجميع الأحزاب والمواطنين على الوصول إلى مجلس النواب القادر على التعامل الناجح مع كافة هذه القضايا والتحديات.