على بساطة مصطلح التغيير الذي يرتبط بنظريات التقدم والارتقاء، أياً كان وصفها في قاموس المصطلحات الإنسانية، إلا أنه من الناحية العملية ليس بالبساطة المتصورة فهو ينصرف إلى فرضيات علمية تنتهي بأهداف ذات طابع سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو سلوكي . والتغيير هو الجسر الرابط بين حالين أحدهما يتعلق بالحالة الإستاتيكية التي تعرف بعلم الاجتماع ما هو كائن وبين الحالة الديناميكية أو المتحولة التي تعرف بما ينبغي أن يكون، بمعنى أن للتغيير وجهين الوجه الأول المرتبط بالحاضر أو ما يسمى بواقع الحال أما الوجه الآخر فهو المنشود أو المطلوب ويسمى بلغة علم الاجتماع ما ينبغي أن يكون، بمعنى أن التغيير يتطلب وجود نموذج ذهني تصوري أو واقعي يرتبط به التغيير من حيث وضع الفرضيات المناسبة وأسلوب العمل الذي يفضي إلى النموذج . وفي الأحوال السياسية يتحقق التغيير بأسلوبين لا ثالث لهما، الأول هو الأسلوب السلمي وربما تتحقق وفق هذا الأسلوب أكبر التحولات السياسية في العالم إذ إن التغيير الذي حصل في الاتحاد السوفييتي وتحوله من النظام الاشتراكي الشمولي إلى الرأسمالي الديمقراطي هو من أكبر التحولات السياسية ذات الطابع السلمي في العصر الراهن كما هو حال سقوط جدار برلين عام 1989 وتغير حال الألمانيتين، أما الثاني فهو الأسلوب العنفي الدموي كما هو حال الثورات ذات الطابع التحرري كثورة المليون شهيد في الجزائر وسواها من التحولات النظمية ذات الطابع الدموي . ورغم أن الفكر العربي الإسلامي قد ساهم مساهمة فاعلة في وضع اللمسات الأساسية للتغيير كقانون النشوء والارتقاء في النظرية الدائرية لابن خلدون وانعكاسها على الفكر السوسيولوجي لدارون وهربرت سبنسر وسملسر وليفي ومور ورستو باريتو إلا أن النظريات التحديثية قد أعطت أبعاداً خطيرة في غائية التغيير كمفهوم التطور عند سملسر، ولا شك أن مفردات التغيير تتجلى في الجانب الاقتصادي بالنموذج الذي يمزج بين التقنية والاقتصاد كما هو الحال في الاقتصاد عندما نقول تكنواقتصادي، كذلك الحال في السياسة عندما نقول التكنوقراط، وفي المجال الاجتماعي عندما توصف المجتمعات الإنسانية بالنضج الاجتماعي في التمايز البنائي وهكذا الحال في الجوانب الأخرى الماسة بجوهر حياة الأمم والمجتمعات . بعد هذه المقدمة الوصفية المتواضعة سننصرف إلى غائية التغيير في الوطن العربي فنقول إن البداية لابدّ أن تكون في الإنسان كنموذج ارتقائي لما ينبغي أن يكون، وهنا من الضروري استحضار ومحاكمة السلوكيات المجتمعية الجاثمة على صدر المجتمع العربي وهي أشبه بالرمال المتحركة ذهاباً ومجيئاً، تلك السلوكيات التي من الضروري أن ترفض جملة وتفصيلاً وأعني هنا السياقات المذهبية التي ترى في العلّو المذهبي شأناً مجتمعياً لا ينبغي تجاوزه، ولطالما أفضت تلك المذهبيات إلى نتائج مدمرة على مستوى العلاقات الاجتماعية التي نشهد فيها اليوم تضارباً صارخاً قد يفضي إلى تداعيات خطيرة على مستوى المجتمع العربي الإسلامي، فالتمايز كمفهوم أوتوقراطي لا يرقى إلى أبسط أدبيات الفكر الإسلامي الذي يرى في الإنسان حالةً سوية، فقوله تعالى في سورة الحجرات الآية ،13 بسم الله الرحمن الرحيم "يا أَيهَا الناسُ إِنا خَلَقْنَاكُم من ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُواْ إِن أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِن اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" فأين التمايز في الآية الكريمة بين شعب وآخر وأقوام وسواها إلا في وحدة التقوى وهي الحال الذي ينبغي أن نبدأ بها . ثم إن غائية التغيير يجب أن تنصرف إلى قوله الكريم: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" والتقوى هنا كميزان للتمايز المجتمعي ليست سوى في أدبيات الإسلام ما تركه لنا الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم وأرضاهم بوصفهم نموذجاً في التغيير وفي التقوى أولئك الذين يُطفئون الضوء على جُلاسِهم حين يتعلق الأمر بالمال العام وحين ينصرف التغيير إلى الذات الإنسانية فإنه ينطلق من غائية سليمة لا ترى في الأشياء إلا صوابها وفي السلطة إلا عدلها كالقول "أيها الناس من رأى منكم فيّ اعوجاجاً فليقومه" ولعلي لا أبالغ إن قلت إن الإسلام ليس بين ظهرانينا كما ندعي بل هو أبعد من أن نتصور ذلك ولكنه في المجتمعات التي أصلحت شأنها انطلاقاً من فرضيات إسلامية يجري تجاهلها ويجري تشويهها في عالمنا العربي والإسلامي . نقلا عن صحيفة الخليج