نشرت مجلة «جيوبوليتيكال ويكلي» في 11 مارس تحليلا متميزا للوضع السياسي العالمي لكاتبها «ايوجين شاوسوفسكي» تحت عنوان «زيادة الاستقطاب في أوكرانيا والتحدي الغربي» نسوقه للقارئ فيما يلي»: يقول الكاتب: قبل أيام فقط من انفجار الأزمة في أوكرانيا ركبت قطار اليليا من مدينة سفاستبول في القرم الي كييف عاصمة أوكرانيا وكان معي في عربيتي ثلاثة ميكانيكيين في الثلاثين من العمر في طريقهم الي عملهم في جمهورية استونيا. كان الثلاثة روسيين ولدوا ونشأوا في سفاستبول، وكانوا يقومون بهذه الرحلة طوال السنوات الثماني الماضية للقيام بالعمل الموسمي في أحواض السفن بالبحر الأسود، وخلال رحلتنا معا كان من الطبيعي أن نتبادل كؤوس الفودكا، وكانت فرصة الحديث متعمقة عن أزمة أوكرانيا السياسية وكان الحديث الذي تلي ذلك ربما أكثر توضيحا للأمور من الأحاديث التي تدور بين المسئولين السياسيين والاقتصاديين ورجال الأمن الأوكرانيين عن نفس الموضوع. نظر رفقاء السفر الذين قابلتهم الي أحداث ميدان الاستقلال نظرة سلبية للغاية، اعتبروا أن المحتجين الذين نصبوا خيامهم في ميدان كييف الرئيس إرهابيون نظمتهم ومولتهم أمريكا والاتحاد الأوروبي. لم يروا في المحتجين وطنيين مثلهم فقد كانوا هم من أنصار الرئيس الذي سقط فيكتور يانوكوفيتش الذي استخدم الأمن ضد المحتجين. وكانوا مندهشين من تراخي قوات الأمن مع المحتجين وقالوا لي: «لو كان الأمر بيدنا لسحقنا المحتجين من البداية»، وأضافوا أنهم بينما كانوا يتطلعون عادة للتوقف في كييف خلال رحلتهم الطويلة لدول البلطيق، فإنهم هذه المرة يشعرون بالخزي مما كان يحدث في كييف، ولذلك لم يريدوا ووضع قدمهم فيها وتنبأوا أن الوضع في أوكرانيا سيزداد سوءا قبل أن يتحسن. وبعد بضعة أيام وصل المحتجون في ميدان الاستقلال الي مرحلة العنف الشديد وهاجمتهم قوات الأمن طوال الأسبوع وحدثت مصادمات شديدة بين الطرفين نجم عنها سقوط عشرات القتلي ومئات الجرحي وتتابعت الأحداث التي انتهت بسقوط الرئيس يانوكوفيتش وتشكيل حكومة أوكرانية جديدة لم تعترف بها موسكو. وتلي ذلك التدخل العسكري الروسي في القرم، وبينما أدهشت سرعة تلاحق الأحداث الكثير من الأجانب خاصة الغربيين كان الرجال الذين قابلتهم في القطار يتوقعونها. فبداية لم تأت هذه الأحداث من فراغ فقد كانت أوكرانيا دولة مستقطبة قبل تكون حركة يوروميدان بفترة كبيرة، وكثيرا ما كان يدهشني السفر بين مناطق أوكرانيا المختلفة فقد كنت أشعر أنني أتنقل بين دول مختلفة فكل دولة لها خلافاتها الإقليمية، ولكن أوكرانيا مختلفة تماما في هذا المجال. فالسفر لمدينة لفيف في الغرب مثلا تجربة مختلفة تماما عن السفر لمدينة دونتسك في الشرق واللغة المستعملة في كل منهما مختلفة، فلغة لفيف أوكرانية، بينما لغة دونتسك روسية.. ويختلف الطراز المعماري في كلتيهما حيث نجد الطراز الأوروبي الكلاسيكي في لفيف، ونجد طراز المجمعات السكانية السوفيتية في دونتسك ولكل من المنطقتين أبطالهما المختلفون، فنجد تمثالا ضخما للينين وسط شارع دونتسك الرئيسي بينما نجد في لفيف تمثال ستيفان بنديرا بطل المقاومة الشعبية الأوكرانية خلال الحرب العالمية الثانية هو القائم في لفيف، وينظر مواطنو لفيف لمواطني دونتسك علي أنهم أتباع لروسيا التي يتكلمون لغتها، بينما يري أهل دونتسك أن مواطني لفيف متطرفون فاشيون. وتقع كل من المدينتين في أقصي طرف الدولة شرقا وغربا ولكنهما لا تنفردان بالاغتراب عن بعضهما فالاستقطاب أكثر حدة في شبه جزيرة القرم، حيث يكون المواطنون من أصل روسي أغلبية سكانها وسينفصلون قريبا عن أوكرانيا. إن الانفصام الثقافي بين شرق أوكرانيا وغربها عميق جدا ولذلك ليس غريبا أن ينعكس في سياسات الدولة فنتائج انتخابات السنوات العشر الماضية تظهر اختلاف التصويت في غرب ووسط أوكرانيا عن شرقها، ففي انتخابات سنة 2005 و سنة 2010 حصل يانوكوفيتش علي أغلبية كاسحة في الشرق وفي القرم بينما كان التأييد له ضئيلا في الغرب. وهذه الانقسامات الثقافية والسياسية قد تكون صعبة في الظروف العادية ولكن في حالة أوكرانيا تتضاعف الصعوبة لوضعها الجغرافي والجيوبوليتيكي، فهي دولة حدودية تم اجتياحها لقرون عدة بين أوروبا من الغرب وروسيا من الشرق ونتيجة وضعها الاستراتيجي ستظل كما كانت دائما ميدان صراع علي النفوذ بين الغرب وروسيا وكان للتنافس علي النفوذ في أوكرانيا نتيجتان أساسيتان، أولهما زيادة استقطابها، فبينما يفضل أغلب سكانها في الغرب مزيدا من التقارب مع دول الغرب يفضل سكان الشرق التقارب مع روسيا ومع أن هناك كثيرا من الأوكرانيين يفضلون الحياد بين الجانبين إلا أن كلا من روسيا، والاتحاد الأوروبي يرفضان فكرة الحياد وكانت النتيجة الثانية أن هذا التنافس علي أوكرانيا من قوي خارجية زعزعه استقرار سياسي عنيف خصوصا بعد استقلالها عن الاتحاد السوفيتي. لذلك فالأزمة الحالية في أوكرانيا هي مجرد آخر مظاهر التنافس بين الغرب وروسيا وقد أثر الغرب وأمريكا كثيرا في الثورة البرتقالية سنة 2004، ومولوها ونظموها سياسيا بينما ركزت روسيا علي تشويه صورة الثورة ونجحت في العمل علي انتخاب يانوكوفتش، ولكنه سقط في انتخابات سنة 2010 نتيجة الدعم الغربي للحركة المناوئة له بعد أن تخلى عن مشاريع اندماج مع الاتحاد الأوروبي، وردت روسيا على ذلك في شبه جزيرة القرم، وهو المأزق المتجمد حالياً. تصاعدت لغة الحرب بين روسيا والغرب بشأن أوكرانيا طوال الحقبة الماضية، ونتج عن ذلك قيام ميليشيات مسلحة داخل أوكرانيا تمثل جانبي الصراع، وكانت النتيجة انفجار ميدان الاستقلال وانتشار الاضطراب، وتتمتع الحكومة الحالية بتأييد الغرب، ولكن روسيا وسكان جنوب وشرق أوكرانيا يعتبرونها غير شرعية ناتجة عن انقلاب فاشي، ومن الواضح استحالة استمرار النظام الأوكراني على هذا الأوضاع طويلاً، وليس هناك توافق وطني على حكومة، ولن تكون هناك سياسة خارجية مقبولة للطرفين، وبتحرك روسيا العسكري في القرم ستكون هناك مفاوضات سياسية عسيرة جداً بينها وبين الغرب. والأمر الثاني المقلق أكثر أن المنافسة بين روسيا والغرب قد تمتد لما بعد أوكرانيا. فقد زادت الأزمة من التوتر في جورجيا ومولدافيا اللتين تريدان مزيداً من التقارب مع الغرب والاندماج فيه بينما تعمل بيلاروسيا وأرمينيا على تقوية علاقاتهما بروسيا. بينما يسعد دويلات البلطيق التي كانت سوفيتية واندمجت الآن في الغرب، يسعدها تحدي الغرب لروسيا، والسؤال الحيوي هو ما مدى تشبث روسيا والغرب بالمنافسة في هذا الصراع لقد عبرت روسيا بحربها ضد جورجيا سنة 2008 عن تمسكها الشديد بمنطقة نفوذها. والسؤال الآن هو ما ينوي الغرب فعله ليواجه روسيا، لقد تردد الغرب للآن في تشجيع ملدافيا وجورجيا علي دخول الاتحاد الأوروبي نتيجة العبء الاقتصادي المحتمل لدخولهما. وخشية استخدام روسيا لسلاح الغاز والتجارة مع أوروبا، وتبقى نوايا امريكا هى العامل الحاسم، فقد تجنبت امريكا القيام بدور رئيسي في المنافسة خلال السنوات الماضية، ولكنها الآن أمام امتحان رئيسي عن مدى استعدادها لمواجهة روسيا، وسيكون المحك هو مدى استعدادها للوقوف مع الاتحاد الأوروبي في مواجهة روسيا، فموارد أمريكا اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً هى القوة الحقيقية للغرب، وسيكون رد فعلها للتحدي الروسي هو العامل الحاسم في جذب أوكرانيا وغيرها من الدول الحدودية بين روسيا والغرب الى فلك المعسكر الغربي. نائب رئيس حزب الوفد