عندما يكون هذا المقال بين يدي القارئ، تكون «الهدنة» بين قبيلتين متناحرتين في أسوان قد انتهت. لا أعرف أنا ولا أظن أحدا آخر يعرف إن كانت العداوات سوف تتجدد، بعد انقضاء هذه «الهدنة» أم لا .لكن الهدنة كلمة مخيفة لأنها تنذر بإمكانية أن يتجدد العنف. كان يقال لنا إن كل مكان في وادي النيل غني بالمياه الجوفية وإن دققت طلمبة في أي مكان بالوادي، فسوف تنبجس المياه، صاعدة إلى أعلى بكل قوة. ومنذ 25 يناير 2011 وحتى اليوم تأكد لي، وربما لكثيرين غيري، أن كل مكان في مصر ممتلئ بمشاعر عنيفة ومكتومة، وعند أقل استفزاز فقد تنفجر نوافير الدم البشري من حيث لا يتوقع أحد. قد تهدأ الأوضاع في أسوان وقد لاتهدأ. ولكني لا أستبعد أن تنفجر في مكان آخر ولأهون الأسباب. العنف ينفجر هنا وهناك طوال الوقت ومن دون مقدمات تبرر أن يسيل الدم في هذا الحي أو في هذا الشارع، في حين ينعم ذاك القريب منه بحياة عادية لا يعكر صفوها شىء. وأنا أتعجب ممن يتصورون أن تدخلا قويا من الدولة يمكن أن ينهي المأساة. لقد ألقت الدولة القبض على كبار قادة التنظيم المسئول «أكثر من غيره» عن العنف المنظم في بلادنا، وأجبرت بقية القادة على التخفي أو الهرب، حتى للمنافي البعيدة. لكن العنف متواصل، ويكاد كل يوم يشهد سقوط أعداد متفاوتة من أعز أبنائنا من عسكريين وشرطيين ومدنيين، جرحى أو قتلى. فإذا كان إنزال ضربات موجعة بكيان تنظيمي لم توقف عنفه ولم تحمنا منه، فأي حسم ذلك الذي يمكننا تصوره في مواجهة كيانات قبلية غير منظمة ولا تتصرف وفق مخططات وليست لها بنية للعنف يمكن تدميرها أو شل فعاليتها؟ أخشى أن يكون طول عهدنا بالعنف الذي نعايشه منذ أكثر من ثلاث سنوات قد وضعنا على طريق سوف نظل نتدحرج فوقه لزمن طويل. أحد الضيوف في برنامج تلفزيوني صرخ في وجه المذيعة، قبل قليل من جلوسي لكتابة هذا المقال، قائلا لها: لا تقولي إننا في حرب، لأن هذا يعني حربا أهلية. ومصر لا يمكن أن تشهد حربا أهلية. هذا هو ما قلته أنا، بالضبط، للصحفية الإيطالية الزميلة والصديقة لوتشانا بورساتي، ونشرته في كتابها الذي صدر قبل شهور بالإيطالية عن مصر، والذي رصدت فيه تحرك المصريين باتجاه الثورة على حكم محمد مرسي وجماعته. لكني لم أعد أمتلك هذه الثقة. فما غرسه الآباء والأمهات والأجداد والجدات، من مسلمين ومسيحيين، من عرب ونوبيين، من بدو وحضر، ما غرسوه في عقولنا وقلوبنا من قدرة هائلة على التعايش، يبدو أنه مهدد اليوم بالاقتلاع. العنف الذي يتكرر هنا وهناك طال زمنه. الاستهتار بالقانون طال زمنه. التجرؤ على ممثلي الدولة من ضباط وجنود طال زمنه. وهذا يعني أن الأرض التي سيقوم عليها مستقبل بلادنا ربما تكون قد تخلخلت تربتها كما لم يحدث منذ نهاية دولة همام الكبير في الصعيد، في القرن الثامن عشر. هناك مرارات ترسبت في النفوس منذ عقود طويلة. لم تعن الدولة بمعالجة هذه المرارات. ولم يسلم المصريون – من قبل - عقولهم وقلوبهم لهذه المرارات لأنهم لم يكونوا قد فقدوا ثقتهم في أنه سيأتي يوم ما وتداوي الدولة أوجاعهم. لكن الأمر اختلف في السنوات الثلاث الأخيرة. ظهرت ثقافة جديدة وكأنها ثقافة «آخر الزمان». لم يعد هناك غد تتطلع إليه وتنتظر مع شروق شمسه أن يأتيك الفرج. إما أن تنهض اليوم مسلحا بغضبك ومرارتك ،لكي تأخذ حقك بيدك، أو لتفرغ شحنات غضبك على جارك لأوهى سبب، وإما أن تستسلم راضيا بهوانك. هذه الثقافة المدمرة منبعها واحد لاغير فقدان الثقة بالدولة. بدأ ذلك منذ سنوات بمن راحوا يغرسون في أعداد متزايدة من الناس كراهية الدولة كدولة وتصوير القانون والدستور بصورة النقيض للشريعة. وهكذا ضعفت الثقة بالدولة. عندما تنتهي ثقة المواطن في الدولة وثقة الدولة في المواطن ينتهي كل أمل في المستقبل. في عام 1995 نشر المفكر والسياسي الفرنسي الذي كان من أخلص خلصاء شارل ديغول، وبعد ربع قرن من وفاة زعيمه، كتابا بعنوان: «مجتمع الثقة»، يقول فيه إن القوة الدافعة للتنمية تكمن في إقامة مجتمع مبني على الثقة: ثقة الدولة في مبادرات المواطن الفرد، وأهم منها – بتعبيره هو – ثقة المواطنين الأفراد في الدولة. المواطن الفرد في بلادنا هذه وثق في الدولة أشد الثقة .وقد خذلته الدولة. ولكنه بقي يعلق الآمال عليها، رغم المرارات التي تراكمت مع مختلف أشكال الفشل التي عايشناها في مختلف العهود. ثم جاء من يستثمر المرارات لنشر ثقافة فوضوية وعنف دموي نغرق فيه منذ ثلاث سنوات. ومن يطالبون الدولة اليوم بالتدخل يعبرون عن هذه الثقة، لأنهم من نجوا من تأثير ثقافة التشكيك والتحريض والعنف. لكني أتمنى لو سلكت الدولة هذه المرة مسلكا مخالفا: أتمنى لو عملت على إنهاء الأزمة في أسوان وكل أزمة مثلها بإنشاء وتفعيل آليات أهلية للضبط والمصالحة. أعطوا رؤساء القبائل والعائلات والأحياء حقهم الواجب في الاحترام ودعوهم يعملون، بكل ثقة واحترام. لا تتركوا تفعيل الآليات الأهلية لمنظمات قد لا تكون سليمة المقصد. بادروا أنتم إلى تعزيز ثقة الناس بأنفسهم وببعضهم البعض وبالدولة.. وصدقوني لن تندموا.