ركز البيان الختامي للقمة العربية في الكويت على قضية تطوير منظومة التربية والتعليم، ودعا إلى «تعزيز الجهود المعنية بالعملية التعليمية، والارتقاء بالمؤسسة التعليمية بأسرها على نحو عاجل، وتأهيلها على نحو يكفل لها أداء رسالتها بكفاءة ومهنية واقتدار، وبالتطوير النوعي لمناهج التعليم، وعلى نحو خاص المناهج العلمية، بما يواكب التطورات التقنية الحديثة واكتشافات العصر وفتوحاته العلمية، وضمان أن يتمتع الخريجون بالمعرفة والمهارات العالية التي تتيح لهم الإسهام في دفع عملية التنمية وتحقيق النهضة العربية الشاملة». وأكد بيان القمة «الالتزام ببناء القدرات البشرية لمواطني الدول العربية، على نحو متصل وبشكل منهجي، من خلال المؤسسات التعليمية ومؤسسات التكوين المهني، بما يساهم في تراكم الرأسمال البشري القادر على دفع مسارات التنمية، وإيلاء العناية بمحو الأمية، وعلى نحو خاص في أوساط النساء والمناطق الريفية في أقرب الآجال وصولاً إلى مجتمع خالٍ من الأمية يتمتع بقوة العلم والمعرفة». إنَّ الارتقاء بالمؤسسة التعليمية من أجل التطوير النوعي لمناهج التعليم، هو التحدي الكبير الذي يواجه الدول العربية في حاضرها ومستقبلها؛ فلا الحاضر يمكن أن تستقر أوضاعه وتزدهر أحواله وترتقي، ولا المستقبل يمكن أن ترسم ملامحه وترسى قواعده ويبنى على أسس متينة، ما دام التعليم لم يعرف طريقه نحو التطوير النوعي لمنظومته على نحو منهجي، ووفق خطط عمل مدروسة يعكف على إعدادها الخبراء المختصون من ذوي الأهلية العالية والرؤية النافذة والعزيمة القوية والانفتاح على آفاق العصر والاطلاع الواسع على التجارب الرائدة للدول المتقدمة في هذا المضمار. ومن حسن الحظ أن هذه الخطط العلمية متوافرة وقد صيغت في شكل استراتيجيات لتطوير التربية وللنهوض بالتعليم ولتجديد الآليات والطرق والأساليب اللازمة لتنفيذها. ففي الشهر الماضي، عُقد في الرياض مؤتمر لوزراء التعليم العالي والبحث العلمي العرب، وقبله بسنتين عقد في الخرطوم مؤتمر لوزراء التعليم العالي والبحث العلمي في دول منظمة التعاون الإسلامي. والجهتان اللتان تدعوان إلى هذين المؤتمرين وتشرفان عليهما وتتابعان تنفيذ قراراتهما، هما المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة. والقرارات التي تصدر عن هذين المؤتمرين اللذين يُعقدان بكيفية دورية، تمهد السبيل نحو النهوض بالتعليم العالي الذي هو القاعدة الصلبة والمنطلق الأساس لتطوير المنظومة المتكاملة للتربية والتعليم والعلوم بصورة عامة. لقد كنت آمل أن تدعو القمة العربية الدول الأعضاء، وبلغة مباشرة، إلى تنفيذ ما اعتمد من قرارات في مؤتمرات وزراء التربية والتعليم والتعليم العالي والبحث العلمي، بشكل يلزمها التطبيق العملي؛ لأن الضعف العام الذي يطبع العملية التعليمية في العالم العربي، إذا كان يعود إلى أسباب كثيرة، فهو يرجع أساساً إلى عدم التنفيذ لخطط العمل وللاستراتيجيات التي يتم اعتمادها في المؤتمرات العربية القطاعية، ولمثيلاتها التي تعتمد في المؤتمرات الإسلامية القطاعية ذات العلاقة، لأن جميع الدول العربية هي دول أعضاء أيضاً في منظمة التعاون الإسلامي. فلا تنقص الدول العربية إذاً، استراتيجيات العمل التربوي الذي يهدف إلى النهوض بالمنظومة التعليمية، وإنما تنقصها الإرادة السياسية الحازمة التي إذا توافرت بادرت إلى العمل بروح الجدية والمسؤولية. إن تراكم الرأسمال البشري في الدول العربية يجب أن يكون الهدف المشترك الذي تتضافر الجهود لتحقيقه على أرض الواقع. ولا ينبغي أن يظل شعاراً جميلاً، تدغدغ به العواطف (أو لنقل بصراحة: تخدر به المشاعر)، وللوصول إلى تراكم الرأسمال البشري ينبغي المرور بتكوين هذا الرأسمال تكويناً تعليمياً وتربوياً ومهنياً محكماً ومتقناً، وتعهده بالعناية الفائقة والرعاية الكاملة. ومن الصدق مع النفس أن نقول إن العالم العربي لم يصل بعدُ إلى مرحلة تراكم الرأسمال البشري. ولذلك نجد بيان القمة العربية يطالب ببناء القدرات البشرية. وهذا هو الهدف المطلوب إنجازه أولاً، وبعض الدول العربية لم تغادر هذه المرحلة، وخطواتها في هذا المجال متعثرة، إن لم تكن بطيئة للغاية، مما يعني أن جهودها في هذا المضار لا تزال بعيدة من تحقيق هذا الهدف الإنمائي بمسافات بعيدة. وبعض الدول التي تمضي في بناء القدرات البشرية لا تستثمر هذا البناء بشكل فعال ينتقل بها إلى النماء. أما الدول العربية التي أثمر بناؤها للقدرات البشرية نماء ملحوظاً، فهي لم تصل إلى مرحلة التراكم المنتج للعلم وللمعرفة، بحيث لم يتطور هذا التراكم إلى طاقات للإبداع في مختلف حقول العلوم والتكنولوجيا والإدارة والتجارة والصناعة والزراعة والطب. وغير ذلك من مجالات التفوق في البحث العلمي على تعدّد شعَبه وتنوّع فروعه. لقد كان بيان القمة العربية، في هذه الظروف الصعبة، مهمّاً في تركيزه على التطوير النوعي لمنظومة التربية والتعليم وبناء القدرات وصولاً إلى تراكم الرأسمال البشري. وليس من شك في أن التطوير النوعي للمنظومة التعليمية هو الخطوة الأولى نحو بناء القدرات التي تحتاج إليها الدول العربية لبناء مجتمعات المعرفة والحكم الرشيد. فما يجري في عدد كبير من هذه الدول من صراعات وتدمير وتخلف، دليل على فشل المنظومة التعليمية فيها، وهو انعكاس لفشل أنظمتها السياسية وتخبطها. إذا سارت الدول العربية المستقرة سياسياً في اتجاه تطوير المنظومة التعليمية وتحديثها، وتغلبت على المشاكل التي تحيط بها، أمكنها أن تبدأ المسار الحقيقي نحو تراكم الرأسمال البشري ومن ثم نحو النماء والعطاء. نقلا عن صحيفة الحياة