منذ تفجر المواجهات العنيفة بميدان التحرير ليلة الأربعاء وأنا أتابع "النيل للأخبار" و"الجزيرة مباشر مصر" وفضائيات أخرى، كما أتابع المواقع الإخبارية لمحاولة الفهم الدقيق لحقيقة ما يحدث، ومن يقف وراءه، لكني لم أصل الى خلاصات قاطعة، وأظن أن أحدا لم يصل الى تلك الخلاصات؟. من المريح البحث عن عدو وإلصاق أي اتهام به خلال كل أزمة، ثم نذهب لننام ونحن مطمئنون، لكن هذا النوع من التفكير لا يعالج الأزمة، بل يعمقها ويقود إلى كوارث. هناك عدو دائم وثابت الآن ترمى عليه المسؤولية عن كل ما يجري في مصر منذ الإطاحة بمبارك في11 فبراير الماضي وحتى هذه اللحظة، وأتوقع أن يظل هذا العدو حاضرا تصوب عليه رصاصات الاتهامات. هذا العدو يسمى "فلول الحزب الوطني المنحل"، فهل صحيح أن كل ما يجري في مصر من شرور هو من تخطيط وتنفيذ هذه "الفلول"؟. ليس مستبعدا أن تكون لهم يد، أو كل الأيادي، فهم فقدوا السلطة والثروة، وهم خليط من جماعات عديدة متنفذة وثرية ومتغلغلة سقطت مع سقوط مبارك ونظامه، وهذا أمر ليس هينا بل هو عظيم، وللآن فإن البعض غير مصدق لما حصل في مصر في 18 يوما فقط، لكن نسأل: من أين تستمد الفلول القوة والجرأة والاطمئنان لتشكل ثورة مضادة، تخيف بها الثورة الأصلية المنتصرة، وتؤرقها وتزعجها وتحدث الوقيعة بينها وبين المؤسسة الأمنية؟، وهل النظام الانتقالي الحاكم ضعيف وهش وغير قادر على السيطرة والإدارة أمام فلول يفترض أنها مهزومة ومرفوضة شعبيا؟، وكيف يكون المنتصر ضعيفا أمام المهزوم؟، وكيف يكون المهزوم مزعجا ومقلقا للمنتصر؟، ومن الذي يجب أن يفرض شروطه، المنتصر أم المهزوم؟. بقدر وجاهة من يقولون إن فلول الوطني هم من يدفعون الأوضاع إلى التفجر، وهم من يحرضون على افتعال الأزمات، مستعينين بالبلطجية فإن التسليم بهذه القناعة لا يجب أن يكون نهائيا وقاطعا، إذ أن هناك حوادث عديدة وقعت هنا وهناك ثبت فيما بعد أن يتامى الحزب المنحل لم يكن لهم علاقة بها، لعل أبرزها مثلا واقعة اقتحام جمهور الزمالك للملعب خلال مباراته مع فريق تونسي. ومع كل الشكاوى من مسؤولية الفلول عما يحدث، ماذا كانت النتائج في الوقائع التي يجري التحقيق فيها في النيابة العامة أو العسكرية، وما دور فلول الحزب الوطني المنحل وبلطجيته فيها، وأين هم حتى نراهم ونتعرف على أشكالهم ؟. وفي حوادث حرق الكنائس والفتن الطائفية العديدة وأظن أن تحقيقاتها قد انتهت، ماذا كانت النتيجة وهل فيها متورطون من عناصر الوطني وهل يقف وراءهم أحد من كبار المتضررين من سقوط النظام سواء ممن هم موجودون بالسجن أو خارجه أم أن المناخ العام في مصر مهيأ حتى من قبل الثورة لاشتعال حرائق طائفية؟. في الأحداث التي بدأت من مسرح البالون مساء الثلاثاء الماضي ثم انتقلت إلى ميدان التحرير باتساع وعنف أوسع ليست هناك رواية واحدة متماسكة تشير إلى حقيقة ما جرى في هذه الليلة بتسلسل مفهوم ومقنع. من سحب أسر الشهداء المعتصمين أمام ماسبيرو إلى البالون، هل هم البلطجية فعلا؟، ومن افتعل المشاجرة للدخول إلى المسرح، هل هم البلطجية أيضا، ولو كان هذا صحيحا فكيف يسير أسر الشهداء وراء بلطجية، أو يشاركونهم في المشاجرة وهم لديهم قدر كبير من الوعي؟، وإذا صحت رواية البلطجية فمن استأجرهم هل هي قوى مضادة للثورة أم قوى محسوبة على الثورة لكنها لا تريد للأوضاع أن تستقر لأهداف ومآرب أخرى خاصة بها. أسر الشهداء تشعر بالألم من فقدان أحبتها وتشعر بالظلم من عدم تقديرها من الدولة كما تشعر بالغضب من بطء محاكمة القتلة وبالتالي فليس مستبعدا وهم في هذه الحالة أن يغضبوا عندما يعلمون أن عددا محدودا من الأسر يتم تكريمهم في مكان ما، وإذا وصل هذا الخبر لهذه الأسر وهي معتصمة، أي أنها في حالة عدم رضا فربما يدفعهم ذلك إلى التعبير عن الغضب بالطريقة التي تمت في المسرح، هذا مجرد افتراض يمكن أن يكون غير دقيق. لكن كيف انتقلت الأزمة من البالون إلى التحرير، وهل الفلول هم الذين حرضوا من كانوا في التحرير، وهل كانوا بين المتظاهرين؟. أنا استمعت إلى مداخلات عديدة من الثوار والنشطاء ليلة الأربعاء ولم يقل أحد منهم أن هناك بلطجية أو دخلاء بينهم بل كانوا ساخطين على الحكومة والشرطة، أي أن المتواجدين كانوا من الثوار وهم الذين كانوا يواجهون أو يردون على الشرطة بالطوب في المعركة المؤسفة التي تابعها العالم وأسهمت في تعقيد الموقف الاقتصادي والسياحي في البلد، فهل يمكن أن نعتبر ذلك براءة للفلول والبلطجية من أحداث التحرير؟. بيان المجلس الأعلى للقوات المسلحة أشار إلى ما وصفه ب "الأحداث المؤسفة في ميدان التحرير والتي لا مبرر لها إلا زعزعة أمن واستقرار مصر وفق خطة مدروسة ومنظمة يتم فيها استغلال دم شهداء الثورة بغرض إحداث الوقيعة بين الثوار والمؤسسة الأمنية لتحقيق هذه الأهداف". ودعا الجيش المحتجين إلى "عدم الانسياق وراء تلك الدعوات والعمل على إجهاضها". أتمنى من المجلس العسكري أن يتوقف عن العبارات المطاطة الغامضة في بياناته، بل عليه أن يكون أكثر وضوحا، وأن يسمي الأشياء بمسمياتها، فالظروف الدقيقة التي تمر بها البلد لا تحتاج للعبارات الشاملة الواسعة التي لا يفهم منها شيء. كما أتمنى على الدكتور يحيى الجمل نائب رئيس الوزراء أن يقدم لنا أدلة على ضلوع إسرائيل وأمريكا في بعض ما يحدث حيث يكرر دوما مثل هذه الاتهامات ، فإذا كانت هناك جهات أمريكية وإسرائيلية تثير الفتنة أو تقوم بدور ما في الأزمات المتتالية فليذكرها لنا صراحة وليذكرها كذلك لواشنطن وتل أبيب، وإذا كان قيل إن الجاسوس الإسرائيلي المشتبه به كان يحرض على الوقيعة بين الجيش والشعب ويدفع باتجاه الفتنة ،فإن الجاسوس بالسجن الآن ومع ذلك الأزمات مستمرة. بعد الثورة لابد من الشفافية والمصارحة الكاملة في كل صغيرة وكبيرة مما يحدث في الوطن حتى نطمئن إلى أننا بصدد تشكل نظام سياسي جديد حر وديمقراطي وليس إعادة إنتاج للنظام القديم بنفس أفكاره وسياساته .