الذين فوجئوا بمياه النيل تتحول من لونها الأزرق الخفيف.. إلي اللون الأصفر.. نسوا أن مياه النيل- طول عمرها- كان ذلك هو لونها.. الأصفر.. والبني.. وكنا نطلق عليها المياه الحمراء! فقد كان ذلك هو لون مياه النيل طوال شهور الفيضان.. وهي تأتينا من اثيوبيا منطلقة من بحيرة تانا- التي تشبه في شكلها.. شكل ثمرة الكمثري.. أو الجوافاية! وتنطلق هذه المياه عبر النيل الأزرق، الذي يطلق عليها الأحباش اسم «الاباي الكبير» وسبب هذا اللون ان مياه الأمطار تسقط علي جبال الحبشة البازلتية والجرانيتية أحياناً وبسبب شدة هذه الأمطار.. تتفتت هذه الصخور، وتجرفها المياه أمامها وقد تغير لونها. وقد شاهدت بعيني رأسي كتلاً ضخمة من هذه الصخور الحمراء أو البنية تجرفها هذه المياه، وبعضها يتجاوز وزنه عدة أطنان! أما مياه النيل «الأبيض» توءم النيل الأزرق فكانت صافية لأن الأمطار تسقط علي منابع النيل هناك فوق الأشجار والحشائش.. وليس فوق جبال حمراء.. وهكذا تكون مياه النيل الأزرق- وأيضاً مياه نهري عطبرة والسوباط وهما أيضاً ينبعان من الحبشة الجبلية، تكون كلها مياهاً حمراء.. هي التي كانت تأتي إلينا خلال شهور الفيضان، بعد موسم مطر يستمر من شهر يونية.. إلي أن ينتهي موسم الفيضان في شهر سبتمبر من كل عام.. وهنا فقط، بعد أن تهدأ مياه النيل الأزرق «الحمراء» عن التدفق.. يسمح لمياه النيل الأزرق لمياه النيل الأبيض بأن تتقدم من عند الخرطوم.. وتنطلق إلي مصر، وهي المياه التي كنا نخزن منها ما نريد عند خزان أسوان.. أما مياه الفيضان الحمراء فقد كنا نسمح لها بالانطلاق شمالاً إلي أن تصب- عبر فرعي دمياط ورشيد- إلي البحر المتوسط، بعد أن تقلص عدد فروع النيل من سبعة إلي اثنين فقط. وبسبب مياه الفيضان تكونت دلتا النيل- واحدة من أخصب الأراضي الزراعية في العالم مثل أنهار الهند والسند والهند الصينية، والصين بالذات عند النهر «الأصفر» هناك! وبسبب تواصل واستمرار ترسب الطمي «الغرين» فوق رمال مصر ولعدة آلاف من السنين.. تكونت أرض مصر الزراعية. وإذا كان زواج النهرين الأزرق والأبيض عند جزيرة توتي أمام الخرطوم.. ولد النهر الواحد المكون منهما ولدت، أرض مصر الزراعية التي تكونت أرضها بفعل هذا الطمي.. بل اننا لو حفرنا حتي 16 متراً تحت سطح الدلتا، وأيضاً أمام الدلتا وبالذات بين مصبي دمياط ورشيد.. سوف نجد أن هذا الطمي تحت سطح المياه المالحة وتحت سطح الدلتا عبارة عن مكونات هذا الطمي! وهكذا تعامل المصري مع هذه المياه الحمراء- سواء عندما كنا نستخدم الري الصيفي، أو ري الحياض، أو تمكنا من حسن استخدام هذا الطمي. وكان المصري- أيامها- يستخدم مادة «الشبة» لترويق هذه المياه الحمراء.. بل استخدم أيضاً «نوي المشمش» لحجز الطمي عن المياه تم استخدامها بعد ذلك.. وبالتالي كانت المياه صالحة للشرب.. بل كان المصري يقوم بتخزين مياه الفيضان في خزانات تحت الأرض- أيام الفيضان- ويتركها حتي يترسب ما بها من طمي ورمال ليستخدمها باقي الشهور إلي أن يجيء الفيضان التالي.. وهكذا كانت «الشبة» وكان نوي المشمش هما الصالحين «لترويق هذه المياه الحمراء.. وابدا لم يرفض المصري هذه المياه». وأتذكر- وقد كنت مرة في زيارة للخرطوم- أيام الفيضان، ان وجدت مياه الشرب تنزل من الحنفية في واحد من فنادق الدرجة ذات النجوم الخمسة، وهي تنزل حمراء.. لأن عملية الترويق أو الترشيح لم تستطع أن تزيل اللون الأحمر منها.. وكنت أشربها.. بشراهة! .. والآن، الناس «ياعيني» قلقانة من تغير لون مياه النيل إلي الأصفر بسبب مياه السيول التي جرفت الرمال من محافظات الصعيد.. ونزلت إلي مجري النيل، وبالمناسبة، معظم «مخرات» السيول تصب إما في النيل أو في الترع الكبيرة.. فهذا أمر طبيعي. وعلي أي حال إذا كان «المصري الحديث الآن» لم يشاهد المياه الحمراء التي كانت تجعلنا نتغزل في النيل.. ها هي الفرصة جاءت لكي يتذكر أو يستعيد المصري اللون الطبيعي لمياه النيل.. كما كنا نراه. وبالمناسبة نزلت مرة أمام القصر الجمهوري بالخرطوم أمام جزيرة توتي وبركت علي ركبتي.. ومددت يدي للنهر.. لأشرب.. وأرتوي من هذه المياه الحمراء.. والله ده حصل.. تيجوا نجرب؟!