هناك حالة انقسام واضحة في المجتمع المصري، فلدينا قطاع يطالب بوضع دستور جديد لمصر أولاً قبل الانخراط في إجراءات إقامة الدولة المدنية الحديثة حتي لا يسيطر تيار بعينه علي الحكم مرة أخري، ولدينا قطاع آخر لا يجد مانعاً في إجراء الانتخابات البرلمانية أولاً، وفي موعدها وفق ما ذهبت إليه الأغلبية في الاستفتاء الأخير الذي جري يوم 19 مارس الماضي. وبين الفريقين أجد المجلس الأعلي للقوات المسلحة في حرج، فلا هو يستطيع البدء في إجراءات وضع دستور جديد للبلاد أولاً فيتهمه القطاع الثاني بأنه يسير عكس إتجاه الأغلبية في الاستفتاء، ولا هو يثق في أن إجراء الانتخابات أولاً وفق نتيجة الاستفتاء سيلبي رغبات القطاع الأول من المجتمع الذي يري في وضع دستور قبل الانتخابات ضماناً كافياً لتغيير حقيقي في المجتمع المصري بعد جمود استمر 30 عاماً. والحقيقة، أن المجتمع المصري خائف من سيطرة تيار بعينه علي مقاليد الأمور في مصر، وقد زادت هذه المخاوف بعد استفتاء مارس الماضي، ولم تكن واضحة بهذه الصورة قبله.. وبالتالي تجد نبرة القطاعين المختلفين في الرأى تعلو وترتفع بمرور الأيام، وهذا الاختلاف إن كان ظاهرة صحية، إلا أنه خطر في مرحلة نحتاج فيها للتوافق لا للانقسام. ولهذا أقترح علي المجلس الأعلي للقوات المسلحة أن يدرس فكرة وضع ضمانات مسبقة لعدم سيطرة تيار بعينه علي مقاليد الحكم لسنوات وعقود قادمة، فتزول مخاوف الفريق المطالب بالدستور أولاً وهي مخاوف طبيعية ومنطقية لقطاع كبير من المصريين.. فالاستفتاء تم علي 8 مواد دستورية وتم تضمينها في إعلان دستوري يضم 62 مادة، وأصبح هذا الاعلان الدستوري بمثابة دستور مؤقت للمرحلة الانتقالية الحالية نتيجة تعطيل الدستور الذي كان قائماً، والذي سقط بسقوط النظام السابق.. والاعلان الدستوري ليس قرآناً ولكنه من صنع بشر يجوز تعديله وتغييره، وبالتالي يمكن إضافة مادة أو أكثر تضع ضمانات محددة لعدم سيطرة فريق بعينه علي اللجنة المكلفة بوضع دستور جديد للبلاد عقب انتخابات البرلمان.. ويكون من بين هذه الضمانات تمثيل من كل فئات المجتمع، بحيث لا يكون لتيار معين أغلبية مطلقة داخل هذه اللجنة.. فإذا جاء مجلس الشعب الجديد له اتجاه معين، ويكون مكلفاً بتشكيل لجنة تأسيس الدستور، لا يحق للأغلبية فيه أن تفرض اتجاهها علي اللجنة. وينبغي أن يتضمن الاعلان الدستوري الذي سيظل قائماً وسارياً حتي اقرار دستور جديد، تحديداً لنسبة أساتذة وفقهاء القانون الدستوري بين أعضاء اللجنة المكلفة بإعداد الدستور، وألا يكون غالبيتهم من تيار بعينه، وألا يقل عدد أساتذة القانون الدستوري أعضاء اللجنة عن ثلث أعضائها.. كما يجب تمثيل كافة الأحزاب والتيارات السياسية داخل هذه اللجنة.. وحينما يبدأ مجلس الشعب الجديد - مهما كانت هويته - في تشكيل لجنة تأسيس الدستور، تكون مهمته اختيار الأسماء فقط وفقاً للتشكيل المحدد في الاعلان الدستوري، ويراجع المجلس العسكري نسب تواجد التيارات السياسية والدينية المختلفة داخل اللجنة، بحيث لا يكون هناك أغلبية مطلقة لأي منها. هذا الاقتراح لو تم تطبيقه سيكون ضماناً معقولاً حتي لا تنتج اللجنة دستوراً له هوية محددة.. وإدراج مثل هذه الضمانات ضمن الإعلان الدستوري سيعفي المجلس العسكري نفسه من حرج السير عكس نتيجة الاستفتاء، أو السير وفق ما أقرته الأغلبية رغم ما ينطوي تحت هذا الاتجاه من مخاطر، وسيؤكد إنحيازه لفكرة الدولة المدنية التى تقوم على أسس ديمقراطية. هذه فكرة يمكن دراستها.. وتطويرها.. وأعتقد أنها مخرج مناسب للمأزق.