الأسرة هى نواة المجتمع وقلبها النابض المحرك لسلوكياته وطاقته وإنتاجه ، لو فسدت الأسرة أو فشلت ، فشل المجتمع واستشرى به الفساد ، وكنت حتى سنوات قليلة مضت ، اباهى فى مهجرى الأوروبى بجمال وروعة وتماسك الأسرة المصرية ، مقارنة بأى أسرة أوروبية ، أباهى باحترام الأبناء للآباء ، بتفانى الأب فى العمل ليل نهار ليوفر لزوجته وأولاده ما يكفيهم ، بذوبان كيان الأم فى زوجها وأولادها ، بتدين الأسرة وتمسكها بأخلاقها وتقاليدها الجميلة ، بالتعاون والتراحم وصلة الأرحام المتقطعة غالبا فى أوروبا ، بتعاون الصغار ورحمتهم بالكبار ، وكنت أروى فى أى مناسبة ، انه فى بلدى من المستحيل أن يجلس شاب فى وسيلة نقل عام ورجل مسن واقف ، وهو مالا أراه يحدث فى أوروبا حتى الآن . ولكنى وتدريجيا ، تراجعت لدى لغة التباهى ، والشيفونية والنعرة الافتخارية ، وتقهقر انتصارى للأسرة المصرية ، التى باتت لا تفرق كثيرا عن الغربية ، وباتت تقف على شفا هاوية تهدد بجرفها الى أعماق دمار لا يعلم بخطره ومداه إلا الله ، بحدوث تحولات سلبية خطيرة داخل الاسرة المصرية فى زمن قياسى ، باتت معه الأسرة شبه أسرة ، وصارالأبناء شبه منحرفين فى كافة المستويات والشرائح الاجتماعية ، لا يفرق فى هذا غنى أو فقير ، الاب زادت لديه لغة الأنا ، خان زوجته غالبا ، وبحث عن سعادته الشخصية خارج منزله هربا من مسئولياته ومشاكل الأولاد ، وإذا ما أنعم الله عليه بالمال كان أول ما يفكر به الزواج بأخرى ليستعيد شبابه الضائع ، وباتت الأم ممزقة لا حيلة لها ولا قوة ، ممزقة بين مراقبة زوجها والتأكد من عدم خيانته لها ، وبين لم شتات الاولاد ومحاربة انحرافهم وبين واجباتها المنزلية أو عملها إن كانت تعمل ، فباتت أيضا شبه أم . وحاولت كثيرا من خلال سمعى لقصص أسر الأصحاب والمقربين ، والجيران ، وما اقرؤه وأسمعه فى كافة وسائل الاعلام على رأسها صفحات الحوادث ، حاولت أن أفهم ، ان استقرئ أسباب هذا الانهيار المتزايد فى الاسرة المصرية ،وارتفاع معدلات الطلاق ، وزيادة معدلات انحراف الشباب والجريمة داخل الأسرة ، قال لى بعضهم إن الاوضاع الاقتصادية وسوء توزيع الدخل ، وتزايد الفجوات بين طبقات المجتمع ، انعكست سلبا على الأسرة المصرية ، وقال آخرون لهاث الآباء وراء لقمة العيش ،أو فى جمع مزيد من الثروات ، وانشغالهم ساعات طويلة عن الابناء ، فباتوا لا يعرفون شيئا عن هؤلاء الابناء إلا قليل القليل هو السبب . وقال آخرون إن غياب الوازع الدينى هو السبب ، الآباء أنفسهم ابتعدوا عن الدين فلم يعد بالتالى كثير منهم يهتمون بزرع العقيدة والدين فى نفوس ابنائهم ، إما بسبب الانشغال أو الاهمال ، أو عدم الصبر على التوجيه وتلقين علوم الدين ، فبات نادرا أن يأمر الأب ابنه بالصلاة ، أو التوجه للمسجد أو الكنيسة ، أو أن يعرف الحرام من الحلال ، أو يصل الأرحام ، فبات غالبية الابناء مسلمين أو مسيحيين بالوراثة ، وليس عن تدين حقيقى ، وغياب الوازع الدينى ، جعل الابناء لا يعرفون شيئا عن أوامر الدين بطاعة الآباء ، ومغبة وعقوبة العقوق ، أو غضب الله على المفسدين فى الارض . كما أن المؤسسات الدينية والتعليمية نفسها ، ابتعدت فى خطابها عن زرع السلوك الطيب والتدين المعتدل فى نفوس الأبناء ، وصارت معظم الخطب بالمساجد أو الوعظ بالكنائس ، لا تمس المجتمعات والاسر المصرية عن قرب ، بل صارت مجرد مساجلات ومطولات تميل للاكاديمية أوتناول المشكلات المثارة على الساحة السياسية او الاقتصادية ، اكثر منها المشكلات الاجتماعية ، رغم أن دور المسجد والكنيسة الاول هو تنشئة أجيال متدينة تتقرب الى الله بصالح الاعمال . وقال آخرون إن الجيل نفسه تغير بسبب صرعات الاتصالات الحديثة ووسائل التكنولوجيا من هواتف محمولة ، انترنت ، بلاك بيرى ، اى بوت ، وغيرها ، وهى اجهزة باتت تشغل الابناء عن الآباء ، بل وبعض الآباء الذين باتت تستغرقهم ايضا ساعات القبوع خلف الانترنت للشات والبحث عن اى علاقات تلهيهم عن واقع تحمل المسئوليات ، وتضعهم بمعزل ليس عن الأسرة فقط ، بل عن المجتمع الحقيقى حولهم . فرغم كونها وسائل اتصال وتسلية ، إلا أنها تجعل الابن أو أى شخص متقوقعا داخل ذاته ، مسجونا فى غرفته ، محددا بمساحة شاشة الكمبيوتر او جهازه الآخر ، يتواصل عبر الاثير ، لا عبر الواقع من الاتصال الشخصي ، بات يبحث عن علاقات بأشخاص بعيدين تماما عن أسرته بل عن وطنه ، يتقمص أفكارهم، ويتكلم بحوارهم ، يتواصل معهم بينما ينقطع اتصاله بأسرته ومجتمعه الذى هو فى حاجة اليه . وباتت هذه العزلة للابناء غالبا ، سببا فى خلق فجوة هائلة فى التعاملات والتواصل مع الاباء ، فأصبح الابناء فى واد والآباء فى واد آخر ، ووصل كثير من الابناء فى أعمار مبكرة الى حالة من الادمان لهذه الاجهزة الالكترونية الحديثة ، وصارت هذه الاجهزة لديهم أهم من اى شئ فى الحياة ، لا يستغنون عنها لحظة ، على مائدة الطعام ، فى الحمام ، فى الشارع ، فى وسيلة الانتقال ، وخلسة فى حصة المدرسة . وقال آخرون إن سبب انهيار كيان الاسرة المصرية هو النظام السابق " وقد بات هذا النظام شماعة لكل اخطائنا وخطايانا التى شاركنا فيها بأنفسنا ولو بالصمت " حيث أفسد هذا النظام منظومة الحياة المصرية ككل ، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ، فانعكس هذا الفساد على الأسرة المصرية ، فالأب الذى يقهره صاحب العمل ويقتص منه لأسباب شخصية ، ويحرمه من حقوقه لصالح معارف او مقربين إليه ، يعود هذا الأب للمنزل مكفهر الوجه غاضبا ناقما على الحياة ، فيسيئ معاملة زوجته وأولاده ، فيهرب الاولاد من تعاملاتهم معه ، ويتقوقعون فى غرفهم ، وتنأى الأم بنفسها عن الدخول فى مشكلات مع الأولاد لتوجيههم الى الصح وترك الخطأ ، فتتركهم يفعلون ما يريدون حتى لا تسبب للأب مزيدا من الازعاج ، فيعم الصمت والرهبة الاسرة ، وتتفكك خيوط التواصل ، وينفرط عقد المحبة والود ، ويصبح كل كائن فى البيت غريبا عن الآخر متقوقعا فى ذاته ومشاكله أو حتى آلامه . ولم تعد هناك مائدة طعام واحدة تجمع الأسرة كما اعتدنا وتربينا ، وإن حدث اللقاء واجتمعت الاسرة على وجبة طعام تصادف أن يكون موعدها ملائما بوجود أفراد الاسرة معا فى المنزل ، كان الصمت والترقب هو المسيطر على أفراد العائلة ، ويجلسون على رؤوسهم الطير ، وينهون طعامهم في عجالة ، وكأنه واجب مفروض عليهم ، ليهرول كل منهم الى شاغله ، وهكذا ، لم تعد هناك أسرة حقيقية . وإن تعددت الاراء والتفسيرات حول مسببات انهيار الاسرة المصرية وتفككها ، فإن النتيجة واحدة ، ان الخطر أحاق بأسرتنا المصرية ، التى كنا نتميز بترابطها عن اى أسرة فى أى بقعة من بقاع المعمورة ، وانه علينا أن نعمل معا لإعادة صياغة هذه الاسرة ، تفكيك مشكلاتها، تذويب جليدها ، إعادة الدفء المتميز اليها ، لاننا فى عهد الاصلاح ، عهد الثورة ، وعلينا ان نبدأ بأنفسنا ، بنواتها ، بأسرتنا حتى ينصلح المجتمع ، ونقدم ابناء نافعين للوطن ، متمتعين بصحة نفسية وجسدية جيدة ، تكون طاقة عطاء بناء لهذا الوطن الجميل .. وللحديث بقية